خلال أيام التصعيد الأخيرة على غزة ، وكانت تحت نظر وتركيز وسائل الإعلام، اتصل بي أحد رواد الفضائيات، المتحمسين الذين يرفعون الخطاب والتحليل إلى أقصى درجات التطرف، يسأل عن المسؤولية العربية التي يصفها بالتخاذل والتآمر على القطاع وسكانه.
سؤال الصحافي المتحمس، تضمن استهتاراً بالمتطلبات الإنسانية لسكان القطاع، الذين من وجهة نظره لا ينتظرون السكر والحليب وما شابه ذلك من مستلزمات الحياة، فالمسألة بالنسبة له، هي في الأساس توفير الدعم السياسي العربي، لصناع العزة والكرامة.
في إطار الإجابة عن سؤاله، لم أجد نفسي مضطراً لأن أدافع عن اتهاماته للأوضاع العربية، وتعمدت أن أرفع سقف اتهاماته لكي أجيب عن الشق الآخر من السؤال ذي البعد الإنساني الذي يتعلق بضرورة توفير أسباب الحياة لمن ينبغي أن يصمدوا على الأرض، وأن يواصلوا مع بقية شعبهم صناعة الكرامة الوطنية.
الكرامة والعزة والانتصار والثبات على الحق، لا يصنعها الأموات، ولا يصنعها المرضى، بل إنها تحتاج إلى الأقوياء الأصحاء الذين لا ينظرون إلى الخلف.
بعد نحو أربع وعشرين ساعة من ذلك الحديث الصحافي، الذي تم بثه بصورة حية في إطار تغطية متواصلة للأحداث، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن نفاد علاجات السرطان.
كانت الظروف قد أرغمتني على التردد على مستشفى الرنتيسي للأورام، وفي كل مرة كنت فيها هناك يتولد لديك انطباع بأن الجزء الأكبر من سكان القطاع مصابون بذلك المرض.
المستشفى يضجّ بالمرضى معظم الوقت، وهناك ترى الطفل والشابة أو الصبية، ومتوسطي العمر، وكباره.
لست هنا لأقول إن نسبة المصابين بالسرطان في قطاع غزة، أعلى أو أقل من نسبته في الكثير أو القليل من المجتمعات، ولكن قليلة المجتمعات التي تشكو من توفر الأدوية اللازمة لمكافحة هذا المرض.
بعض المجتمعات ربما يعاني من نقص أو ضعف الإمكانيات المادية أو البشرية لمكافحة هذا المرض العضال، لكن المشكلة هي أننا في قطاع غزة، نتعرض لهذه المعاناة، لأسباب من فعل فاعل.
الطواقم البشرية من أطباء متخصصين وكوادر تمريض متوفرة وهم تعمل على مدار الساعة حتى نهاية الدوام الرسمي، حتى أن الأطباء لا يجدون الوقت أحياناً للخروج من خلف مكاتبهم لقضاء الحاجة، ولكن هؤلاء دخلوا في مرحلة من البطالة، شأنهم شأن مئات آلاف العاطلين عن العمل رغماً عنهم وليس اختياراً.
يتحول الأطباء إلى مسؤولي علاقات عامة، يجلسون على مكاتبهم للإجابة عن أسئلة المراجعين من المرضى، أو إعطائهم بعض، المسكنات الدوائية والوعود بحل المشكلة.
ماذا يفعل الأطباء وماذا يفعل المرضى، الذين ينتظرون جرعة الكيماوي، في ظل عدم توفرها، وصعوبة الحصول على تحويلات طبية لاستكمال مراحل علاجهم في القدس ، أو في مصر أو غيرها؟
لست على علم بنتائج التأخير الكبير بين جرعة الكيماوي والتي تليها، ولم أكلف نفسي بسؤال أحد عن ذلك، ولكنني أظن أن أضراراً كبيرة تلحق بالمرضى نتيجة عدم الانتظام في تلقي العلاج.
قبل الإعلان عن نفاد الكيماوي، كان قد نفد من المستشفى، الدواء (حقنة) الخاصة برفع مستوى المناعة، ذلك أن جرعة الكيماوي تتدنى لمستوى المناعة إلى ما يقرب الصفر في حين أن النسبة الطبيعية تتراوح بين 6 ـ 12.
بعض المرضى يملكون القدرة على توفير ثمن هذه الحقنة التي يصل ثمنها إلى مئة وخمسة عشر شيكلاً، لكن أغلب الناس لا يستطيعون توفيرها، فبعض العائلات لا يصل مستوى دخلها إلى أكثر من خمسمائة شيكل، وبعضها لا دخل مادياً لها على الإطلاق.
لا أوجه الاتهام بفداحة المصاب لأحد، ولا أتوسل لأحد بأن يتقي الله في أهل غزة، لكنني أقدم نموذجاً للمعانيات الإنسانية، التي تذهب ال حماس ة الزائدة، إلى تجاهلها وإهمال المسؤولين عنها. لا أريد أن أضيف في وصف المعاناة، التي يتسبب بها نقص أو فقدان بعض الأدوية والعلاجات والمستلزمات الطبية، وبضمنها المحروقات التي تصرخ من نفاد مخزونها، الجهات الطبية في القطاع.
معلومة أسباب هذا الوجع وأولها بطبيعة الحال الاحتلال الإسرائيلي لكنه ليس آخرها، ولكنني خلال كل الوقت وأمام أصغر المشاكل وأكبرها كنت أردد أن المصالحة الفلسطينية هي قبل كل شيء، العلاج المناسب لكل هذه المشاكل والأزمات.
عند الحديث عن المصالحة لا يفيد الكلام كثيراً فلقد انشغل كل السياسيين، وكل الكتّاب والصحافيين، وكل المجتمع، بالحديث عنها، وتقديم المبادرات والنصائح، والدعوات، ولكن على المسؤولين أن يتذكروا حين تبدأ كتابة تاريخ هذه المرحلة، ما الذي فعلوه لشعبهم وبأنفسهم، وبقضيتهم وحقوقهم التي يواصلون الليل بالنهار إعلان الالتزام بها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية