الوجه الأول لهذا القانون هام للغاية: فهذا القانون تم إقراره باعتباره «قانون أساس» وهو يشكل بالتالي مع منظومة القوانين الأخرى الأساس من الناحية العملية الاطار الدستوري لدولة الاحتلال، ولكنه يتميز عن كافة القوانين الأساس الأخرى في كونه أقوى وأهم من كل قوانين الأساس، باعتبار أنه يعالج «تعريف الدولة والهوية والأرض والسيادة والمصير»، وهو الأمر الذي يعني أن كافة القوانين التشريعية والتنفيذية والإجرائية والقضائية لا بد وأن تخضع لمقتضياته، وهذا هو مكمن الأهمية الخاصة لهذا القانون، والمكانة الكبيرة والمهيمنة لموقعه ودوره في تحديد معالم المراحل الراهنة والمستقبلية.


كما أن هذا القانون جاء ليحسم طابع الدولة ومصير الأرض وإقصاء الشعب الفلسطيني وتجريده من أي حقوق تاريخية ووطنية وحتى معيشية، طالما تعلق الأمر به كشعب أو تجمعات شعبية، ولم يبق للفلسطينيين إلاّ بعض الاحتياجات أو الحق في الحصول عليها بصورة فردية، أي باعتبار أنهم مجموعة من الأفراد المنزوين وليس باعتبارهم جماعة وطنية من أي نوع كان.


وفي الوجه الأول أيضاً اثار القانون ومنذ الآن وسيثير لاحقاً وبصورة خاصة وربما متسارعة جدلاً واسعاً عن العلاقة التي تربط ما بين مفهوم صفقة القرن وما بين الوقائع التي تقيمها إسرائيل على الأرض، باعتبار أنها (أي الوقائع) تحولت إلى واقع يكرسه القانون الجديد، ويحولها إلى «حقائق سياسية».


كما حسم القانون النقاش داخلياً بين مدرسة بن غوريون الذي كان يعتقد بوجوب العمل دون الإفصاح عن أي شيء من الناحية الشرعية والقانونية، أو الإفصاح عن أقل ما يمكن، وعمل كل ما هو ممكن، وبين مدرسة اليمين القومي الديني الجديد الذي بات على قناعة أن الحسم القانوني والتشريعي لهوية الدولة والمواطنة فيها، وكذلك حق تقرير المصير على «ارض الشعب اليهودي» أصبح ملحاً وراهناً في ظل الترامبية، وفي ظل عجز المجتمع الدولي وانشغالاته المتعددة، وفي ظل حالة الهوان العربي التي لم يسبق لها مثيل منذ مئات السنين.


أما الوجه الآخر لهذا القانون فهو الهام أو الأكثر أهمية لنا كفلسطينيين.


فهذا القانون ي فتح امام الشعب الفلسطيني وأمام قيادته الشرعية الباب واسعاً لخوض معركة سياسية قد يكون لها ـ إذا ما أديرت بحنكة ـ الأثر الأكبر والفضل الرئيس في نهاية النظام العنصري الذي يرسخه القانون للدولة الإسرائيلية.


في الممارسة المعتادة ومنذ قيام إسرائيل كانت العنصرية حاضرة في معظم تفاصيل الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن قانون القومية ينقل المسألة إلى الإطار الدوري ومؤسسات القانون الدولي باعتبارها تتعلق بتعريف الدولة ودستورها، والأساس القانوني والتشريعي لممارساتها.


هنا تبرز مسائل في غاية الأهمية والخطورة من نوع:
- هل قانون القومية الجديد يتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة!؟!
- هل يتناقض القانون مع المعاهدات الخاصة بالأمم المتحدة؟!


- إذا كان الأمر كذلك ـ وهو في أغلب الظن كذلك ـ فهل تكون إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تبني دستورها على أساس عنصري، وهل تدخل بالتالي في عداد «الدول» التي لا تناهض التمييز وبالتالي تتحول إلى دولة أبارتايد؟!


- هل يشكل هذا القانون مع رزمة أخرى من قوانين مماثلة أساساً كافياً يعرضها للمساءلة القانونية بدءاً من العضوية في الأمم المتحدة وصولاً إلى العقوبات والمقاطعة؟!
إذن، الوجه الآخر لهذا القانون يشكل بالنسبة للنضال الوطني الفلسطيني فرصة تاريخية كبيرة تستحق من الحركة الوطنية الفلسطينية وقفةً جديدة، باعتبار أن هذا القانون قد أحدث فعلياً انعطافة في مسار هذا النضال.


هذا متغير استراتيجي جديد، يتطلب إعادة النظر في بُنى وأطروحات وبرامج الحركة الوطنية، وربما يضع النضال التحرري الفلسطيني أمام استراتيجيات متجددة ومبتكرة، يتعزز من خلالها النضال الديمقراطي والمقاومة السلمية الشعبية، ويعيد صياغة التحالفات على المستوى الدولي وفق منظورات جديدة.


إذا عجزت الحركة الوطنية الفلسطينية عن الاستفادة الاستراتيجية من هذا المنعطف، ولم تُعد النظر في استراتيجيات المواجهة من العنصرية الجديدة في إسرائيل، ولم تكيف بنيتها مع مقتضيات هذا المنعطف، فستبدو وكأنها خارج سياق المسار التاريخي الجديد، وسيكون على النخب الفلسطينية التقاط هذا الظرف التاريخي الجديد لإعادة تجديد هذه البنية.
لأن قانون القومية يترافق مع متغيرات دولية وإقليمية ووطنية تشكل في مجملها معالم كبيرة لمراحل جديدة.


لو أمعنا النظر في حقيقة التحولات التي تشهدها إسرائيل في السنوات الأخيرة لاكتشفنا بسهولة ويسر أن اليمين يحسم ويريد أن يقطع الطريق من الزاوية العملية والتاريخية على أية قوى خارجية أو داخلية تغير مسار السيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية أرضاً وتاريخاً وتراثاً وثقافةً وهويةً ووجوداً.


قد يستنتج البعض المتطير سياسياً أن هذه التحولات تعيد الاعتبار للتطرف السياسي، وتعيد الاعتبار لأسلوب مواجهة إسرائيل بما في ذلك العنف والكفاح المسلح، وقد يستنتج البعض الآخر أن هذا الحسم في المشهد الإسرائيلي يحتم علينا إبداء مرونة جديدة لكي يتم انتزاع ما يمكن انتزاعه قبل أن تلتهم إسرائيل كل شيء وتعمد إلى أساليب جديدة بما فيها الطرد الجماعي.


كل هذا وارد ومتوقع، لكن المسألة التي باتت تحتاج إلى حسم من جانب الحركة الوطنية هي ـ كما أرى ـ تجديد بنية هذه الحركة وبرنامجها على أساس المقاومة السلمية الشعبية العارمة لإسقاط نظام الأبارتايد الذي باتت تمثله إسرائيل بعد إقرار هذا القانون، حيث إن النصر في هذه المعركة هو نصر مؤكد ومؤزر، ونهاية العنصرية معروفة وأدوات الانتصار الحاسم عليها مجرّبة.


إذا التقطت الحركة الوطنية الفلسطينية هذه اللحظة التاريخية الفارقة وربطت نضالها على كافة المستويات بكافة القوى المناهضة للعنصرية في العالم، وأحسنت تمكين موقعها في هذه الخارطة الكونية الجديدة، والتي هي في طور النشوء والتبلور على كل الأصعدة وفي مختلف المجالات والبلدان، فإن مصير العنصرية الإسرائيلية سيكون الهزيمة الماحقة مع كل منظومة اليمين المتطرف على مستوى العالم كله.


هذه فرصة تاريخية غير مسبوقة للتجديد والتجنيد، ولتجاوز الملهاة الداخلية والخروج من مهزلة الانقسام وتوحيد قوى الشعب في الداخل والخارج وفي مختلف التجمعات نحو هدف الإطاحة بالعنصرية.


قوى عالمية وعربية وإسرائيلية ستندرج في اطار هذه الاستراتيجية إذا تمكنت فلسطين من تزعّم هذه المعركة وقيادتها بوعي وإرادة وتصميم.


معظم ما ورد من أفكار في هذه المقالة كان موضوعاً للمناقشة في ندوة «مدار» أمس الأربعاء، وخصوصاً حول الوجه الأول، حول قانون القومية، وهو أمر يؤكد مدى الوعي الذي باتت تتسلح به القوى الحية من شعبنا للمواجهة القادمة، كما يعكس مدى إدراك نخب متزايدة لمعالم المرحلة الجديدة.


أما الوجه الآخر، فهو من صلب مهمات الحركة الوطنية للمرحلة القادمة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد