حديث المُصالحة الجديد المُبشّر بقرب إنجاز المُصالحة يبعث على التفاؤل والارتياح الشديد؛ ولكنّهُ يُذكّرنا أيضاً بقصة الراعي والذئب المغروسة في مخزون الذاكرة الجمعية الشعبية الفلسطينية، مع الفارق الواضح بين نهايتي القصتين: فالراعي كان صادقاً في نهاية القصة، بينما قصتنا مع المصالحة لم تنتهِ بعد، ولم يُعرف مدى مصداقية حديث المُصالحة الجديد، خاصة التصريحات الصادرة عن مُخترع نظرية الطائرة المخطوفة، ومبتكر نصيحة الشرب من ماء بحر غزة المُلوّث، ومؤلف كتاب (الأسرار الخفية لمعاني التمكين الخفية). وإلى أن يتم التأكد من مصداقية حديث المصالحة الجديد يواصل بعض المسئولين السلطويين والقادة السياسيين مسلسل الاستهبال والاستحمار في تصريحاتهم الإعلامية بنوعٍ من الاستخفاف بوعي الشعب وفطنته، وبشيء من الاستهتار بعقول الناس وبصيرتهم. وإضافةً إلى ذلك هو نوعٌ من التناقض بين الأقوال والأفعال يمقتهُ اللهُ تعالى ويبغضه الناس.
هذا التناقض نوعٌ من (الكوميديا السوداء) التي تتحوّل فيها المواقف الجادة المُحزنة إلى مواقف ساخرة مُضحكة، ويُعبّر عنها المثل الشعبي (شرُّ البلّيةِ ما يُضحك)، الذي يُقال عندما يكون الموقف المأساوي قد وصل إلى درجةٍ من الجدية والقسوة والشدة بحيث تؤدي إلى الشلل والعجز عن مواجهة الموقف وتجاوزه، ولم يُعدْ له مخرج إلا السخرية والضحك، وهذه المواقف من الكوميديا السوداء متكررة في الواقع الحقيقي، ومن أمثلتها: عندما يتحدّث الرئيس الديكتاتور عن الديمقراطية ويُهاجم الطغيان، ويتكلم الزعيم المستبد عن الحرية ويتوّعد الظلم، ويُلقي الخطيب المُترف خطبةً عن الزهد ويهجو البذخ، ويتغنّى السياسي الفاسد بالنزاهة ويستهجن الانحراف، ويُرشد الواعظ الكذّاب الناسَ إلى قول الصدق ويحذّرهم من الإفك، ويكتب المثقف الانتهازي عن الإخلاص ويُنفّر من النفاق، ويحلف التاجر الغشّاش بالأمانة ويسب الخداع، ويمدح الموظف المرتشي العفاف ويذم العَوجَ، ويشيد الساقط أخلاقياً بالفضيلة ويسقّه الرذيلة.
إضافة إلى التناقض الممقوت والتضارب المبغوض في المواقف السابقة الذي لا يبعد كثيراً عن الكوميديا السوداء في الأفلام الأمريكية؛ فإن في ذلك شيئاً من الاستهبال، وقليلا من الاستحمار، يساويه أو يزيد عليه في درجة المأساة المُحزنة التي تحوّلت إلى ملهاةٍ مُضحكة حديث المُصالحة الجديد، فعندما يتحدّث كبارُ المحرّضين على الانقسام عن الوحدة الوطنية، ويتغنّى مشعلو نار الخصام بالمصالحة الداخلية، ويُصرّح صانعو بدعة العقوبات على غزة عن معاناة أهلها... ويتم تكرار ذلك منذ أكثر من عقدٍ من الزمان دون كللٍ أو ملل، ومن غير برمٍ أو سأم في استخفاف واضح بعقول الناس ومشاعرهم ومعاناتهم وعذاباتهم المتواصلة بفعل الاحتلال والحصار التي زادها الانقسام بؤساً، وضاعفتها العقوبات ألماً، وعمّقها عدم اكتراث المسئولين السلطويين بأوجاعهم ومشاعرهم وكرامتهم. وهذا هو الاستهبال بعينه والاستحمار بذاته.
الاستهبال في اللغة العربية الفصحى يعني تظاهر بالهَبَل وهو فقدان العقل والتمييز، والاستهبال خليط من الغباء والاستحمار: الغباء الممزوج بشيءٍ من الحُمق والبلاهة النابع من الذات على نمط (غبي منّهُ فيه)، والاستحمار المخلوط بقليلٍ من الاستعباط والاستخفاف، النابع من الاعتقاد أن الآخرين لا يملكون عقولاً يُفكّرون بها وذاكرة يميزون بها، على عادة (الخاصة) من السادة الأكابر وعليّة القوم وولاة الأمر منّا أو علينا في الاستخفاف بـ (العامة) من (العوام السُذّج البسطاء) و(الرعايا القُصّر دون سن الرشد).
والاستهبال في العامية تُطلق على الشخص الذي (يسوق الهبل على الناس) فيُمارس الدهاء والخداع والتمثيل عليهم اعتقاداً منه بأنه أذكى منهم. أما في السياسة فهو قريب من مفهوم (الاستحمار) الذي استخدمه (علي شريعتي) كمرادف لمفاهيم: الاستغلال والاستعمار والاستبداد والاستعباد المُمارسة على الشعوب المستضعفة المغلوبة على أمرها لتطويعها بعد تزييف وعيها. وهو قريب من مفهوم (الاستخفاف) في القرآن الكريم الذي مارسه فرعون على الشعب المصري، ويمارسه الطغاة على شعوبهم منذ أول التاريخ حتى قيام الساعة.
زبدة الكلام ومُنتهى الحديث فيما سبق من قول عن الاستهبال والاستحمار أن بيع الوهم الخادع للشعب لم يعدُ يجدي نفعاً، وتسويق السراب الكاذب للناس لم تعد تجارة رائجة، واستمرار التصريحات المُبشّرة بقرب إنجاز ملف المُصالحة أشبه بإعطاء الآخرين شيكات بدون رصيد، وفيها استخفاف بعقول ومشاعر الناس لا يستحقه هذا الشعب العظيم الذي ارتقى هؤلاء المسئولون ووصلوا إلى مناصبهم الرفيعة بفضل صمودهم ومقاومتهم ومعاناتهم وعذاباتهم، والأفضل لهم قول الحقيقة للناس، أو فليصمتوا حتى تتم المصالحة فعلاً، وحينها سيشعر الناس بها واقعاً ملموساً دون الحاجة إلى تصريحات المسئولين التي نأمل أن تكون صادقة هذه المرة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية