يبدو حقاً أن الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، مختلف، ليس عن سلفه الديمقراطي وحسب، بل وربما عن كل أسلافه من الرؤساء السابقين، فهو مغرم جداً بكل ما هو مثير، لدرجة أنه، وهذا أمر طبيعي، ما كان بمقدوره أن يغير جلده بين ليلة وضحاها لمجرد أنه دخل البيت الأبيض سيداً له، وصار رئيساً يمثل واجهة الدولة الأقوى حالياً في العالم، عسكرياً واقتصادياً، ثم سياسياً.


اختلاف الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن أسلافه من الرؤساء، لم يقتصر على إقدامه على اختراق التقليد الذي عمل به ثلاثة رؤساء من قبله، ونقصد به تعطيل قرار الكونغرس القاضي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب للقدس، والمتخذ منذ العام 1995، وحسب، ولم يقتصر على ما يحيط بولايته من قضايا أخلاقية من قبل "بعض ممثلات الإباحية"، ولا ما يجري الحديث بشأنه من "تدخل روسي" عبر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لصالح حملته الانتخابية، فقط، بل تعدى ذلك إلى جوهر سياسته المرتكزة على الاقتصاد كمحدد مباشر وصريح للقرارات والمواقف السياسية المختلفة.


في الحقيقة، فإنه عادة ما يقوم الرؤساء الأميركيون "بتعديل شعاراتهم الانتخابية" بمجرد دخولهم البيت الأبيض، لكن ترامب، وبعد عام ونصف العام كرئيس، لوحظ أنه واصل إطلاق شعاراته ومواقفه النارية في كل اتجاه، خلال عامه الأول في البيت الأبيض، كما لو كان يخوض حمله انتخابية عالمية، ولم يعرف في الحقيقة وهو ي فتح النار والغضب على كوريا الشمالية، والتي أوصلت العالم في وقت ما إلى حافة الهاوية، حيث لاحت احتمالات قوية لاندلاع حرب نووية في شرق آسيا، نظراً لما أظهره الرجلان: دونالد ترامب وكيم جونغ أون، من تشدد وتصريحات نارية، وصلت حتى التهديد والتهديد المضاد، وفي الوقت ذاته، الانسحاب من الاتفاق مع إيران، والإعلان المشؤوم الخاص ب القدس ، فيما كان وفي نفس الوقت يوقع قرارات ترفع من التعرفة الجمركية على كثير من السلع المستوردة من الخارج، بما في ذلك من أوروبا. أي أنه كان يطلق رسائل العداء والتوتر الاقتصادية والسياسية والعسكرية في أكثر من اتجاه بالعالم، وكان ربما خير شاهد هو ما كانت تظهر عليه مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هايلي من عزلة وانفراد في المواقف دون حتى حلفائها الأوروبيين، إن كان في مجلس الأمن أو الجمعية العامة.


ما يبديه ترامب من مواقف سياسية متطرفة، يظهر أنه يرئس إدارة سياسية غير متزنة، ذلك أنها في كثير من الحالات والمواقف تراجعت، بل وتحولت بنسبة مئة وثمانين درجة، ورغم ما يحرص ترامب على إظهاره من كونه رئيساً قوياً، يسعى لإعادة الهيبة المفقودة لبلاده كزعيمة للعالم، خاصة بعد أن أظهرتها روسيا ودول أخرى على هذه الصورة في أكثر من مكان، إلا أنه بتراجعاته، وتسرعه، وكذلك لأنه يفتح أكثر من جبهة في وقت واحد، وهذا ليس من الحكمة بشيء، نراه يتراجع، كما حدث في الملف الكوري. حيث واجه ترامب زعيماً قوياً يتمتع بالشجاعة والجرأة الناجمة عن قوة بلاده العسكرية وامتلاكها سلاح الردع النووي، فبلع ترامب لسانه، وها هو يذهب إلى ملاقاته في سنغافورة، كما لم يحدث من قبل ولا مع أي رئيس أميركي سابق!


السؤال الآن هو: ماذا يمكن أن ينتج عن لقاء القمة النووية في سنغافورة؟ فكوريا الشمالية تريد تخفيف العقوبات الدولية، وتحسين الاقتصاد، وجذب الاستثمارات الدولية، التي قد يكون بمقدمتها الكورية الجنوبية، في حين تمني واشنطن النفس بتخلي بيونغ يانغ عن ترسانتها النووية.


ليس هناك عاقل يتوقع أن تفعل ذلك كوريا الشمالية، خاصة وهي ترى بأم العين أن قوتها النووية هي التي جعلت واشنطن ترفع لها القبعة، وتتعامل معها كما لو كانت دولة عظمى، لكن بالمقابل فقد يكون من شأن اللقاء الأول أن "يفكك" جبهة العقوبات الدولية، خاصة أن الولايات المتحدة، شيئاً فشيئاً تخسر الكثير من الحلفاء الدوليين، فيما يبدو أن النتائج لن تكون فورية، أي أن سلسلة لقاءات ومسار متدرج من العلاقة بين البلدين هو الذي قد يفضي بالنتائج.


قبل سفره إلى سنغافورة، كان ترامب سبب فشل قمة السبع التي عقدت في كوبيك بكندا، حيث سحب فجأة، السبت الماضي، موافقته على البيان الختامي، وكانت الدول السبع (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وكندا واليابان وإيطاليا والولايات المتحدة) توصلت إلى تسوية بعد جهود شاقة على وثيقة البيان التي تتضمن 28 نقطة.


ترامب برر سحبه الموافقة على البيان بالقول: إن تصريحات رئيس وزراء كندا أغضبته، ومع أن المراقبين يعتبرون أن البيان فقط يقوم بمهمة خفض التصعيد بين أميركا وحلفائها الغربيين، إلا أنه كان مهماً، لذا فقد يذهب ترامب إلى حرب تجارية مع دول الاتحاد الأوروبي وكندا، ستظهر حدتها قريباً مع ما يعلنه الأوروبيون وكندا من إجراءات مضادة لقرارات ترامب المتعلقة برفع الضرائب على الألمنيوم والفولاذ اللذين تستوردهما أميركا من أوروبا وكندا.


في مقابل التصدع السياسي الناجم عن الحرب التجارية التي أعلنها ترامب على شركائه وحلفائه الغربيين، ظهرت جبهة مضادة موحدة، حيث اجتمع في الوقت ذاته قادة الصين وروسيا وإيران، وأظهروا قدراً كبيراً من التوافق، وهم يناقشون الموضوع ذاته، وفي إطار قوة اقتصادية كونية، تضم إليهم كلاً من الهند وباكستان، وهكذا فإنه إذا كان ترامب بلقائه أون في سنغافورة جنّب العالم حرباً نووية، فإنه فتح في الوقت نفسه حرباً عالمية اقتصادية، قريباً ستظهر "التكتلات أو التحالفات الدولية" على أساسها، وقد ترث منظمة شنغهاي معسكر الشرق، والدول السبع معسكر الغرب، اللذين تواجها في الحرب الباردة، لكن السؤال هنا هو: أين سيكون موقع الولايات المتحدة منهما؟ بل هل سيكون القطبان ضدها، وأن الكرة ستتدحرج سريعاً بحيث يكون الشرق والغرب معاً، ضد أميركا في الحرب التجارية القادمة؟!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد