الدرس الوحيد الذي يمكن أن يُستخلص من لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون أن العالم لا يعترف إلا بلغة القوة، وأن علاقات الدول بقدر ما تتأسس على المصالح فإنها تتأسس على توازن القوة والنفوذ وحمايتهما. وهذه بالطبع ليس بالحكمة الجديدة في علاقات الدول والشعوب بل تكاد تكون أول دروس العلاقات الدولية التي يمكن أن يتعلمها طالب الجامعة في مساق تمهيدي. ليس أن العالم يدمن القوة وليس أن العنف أساس علاقات الدول، ولكن لأن تاريخ البشرية ليس في الحقيقة إلا تاريخ حروب البشر واقتتالهم فيما بينهم في سبيل البقاء. هذا قول لا يمكن أن يؤخذ ببعده الداروني (نسبة إلى دارون) بل ببعده الحقيقي من حيث إن التاريخ عبارة عن قصص الحروب، وربما أن الأدب بسجلاته الأولى كان ملحمياً بامتياز انعكاس لهذه الحقيقة، بل إن المسرح التراجيدي مثلاً بتوصيفات سقراط هو أساس المسرح مقابل الكوميديا غير المرغوبة. مرة أخرى تبدو القوة دائماً مثار تأمل واقعي لأنها تشكل ذروة الواقعية. إنها الواقعية التي ظلت أهم مدارس السياسة والعلاقات الدولية حتى بعد ظهور نظريات جديدة في النصف الثاني من القرن العشرين لفهم السياسة وعلاقات الدول، ظلت هذه الواقعية جوهر الفهم الحقيقي للسياسة، ولم تندثر أو تتلاشي كما هو ديدن النظريات مع تطور العلوم. 


اللقاء الأميركي الكوري الشمالي الذي يعقد في سنغافورة هو لقاء تحد وإرادة. فبيونغ يانغ التي وقفت طوال العقود الأخيرة معارضة لسياسة واشنطن، وصدرت منها الكثير من التصريحات والمواقف التي تقع في باب التهديد لا تجد نفسها مضطرة للجلوس مع الرجل الأكثر رعونة في العالم، بل تجلس معه نداً لند. علينا التذكير أولاً بأن سياسات كوريا الشمالية فيما يتعلق بحقوق الإنسان والحريات الغائبة والقمع والتسلط والدكتاتورية ليست مثار إعجاب هنا، ولا يمكن لها أن تكون كذلك، بل هي يجب أن تكون موضوع نقد وإدانة خاصة ممارسات الزعيم الكوري ضد معارضيه السياسيين وغياب مساحة الحرية والمشاركة والقضاء على فرصها في المجتمع وإغلاق مؤسسات الدولة وأجهزتها على حفنة قليلة. وهذا موضوع آخر. والمتابع العربي في قرارة نفسه لابد أنه يدعو الله أن يرسل له دكتاتوراً متسلطاً مثل الدكتاتور الكوري الشمالي، على الأقل يستطيع أن يفرض كرامة دولته وشعبه على قوى العالم ويفرض نفسه شريكاً على واشنطن المتعجرفة. في واقع الأمر فإن الطغاة يملؤون عالمنا العربي إلا ما ندر منهم، لكنهم طغاة لا تستفزهم مصالح شعبهم ولا يطمحون إلى دفع دولهم قدماً إلى الأمام، ولا يسعون إلى تطوير مقدرات بلدانهم. وبدلاً من كل ذلك يواصلون القمع ومصادرة الحريات الشخصية والعامة والسطو على إرادة الشعوب. حتى المستبد العادل غائب. بالطبع النموذج الكوري الشمالي ليس نموذجاً يحتذى به، خاصة فيما يتعلق بالحريات والإدارة السياسية، لكنه فرصة للتذكير بدرس التاريخ والسياسة الأهم أن العالم لا يعترف إلا بلغة القوة، وان الضعفاء لا مكان لهم إلا في سجلات الحزن وأنهر البكاء. 


يمكن أخذ إيران وكوريا الشمالية كنموذج لفهم ذلك. استطاعت إيران رغم كل ما وصفها بها الغرب من صفات أن تفرض نفسها بالقوة على المشهد الإقليمي والدولي ليس من خلال قوة الأيديولوجيا ولا من خلال تقديمها لنفسها كنموذج للحريات ولا الديمقراطية، بمعنى أنها لم تستثر عناصر القوة الناعمة ربما المفقودة في حالتها حتى الآن باستثناء تأثير المذهب الشيعي بطبعته الإيرانية على المسلمين الشيعة وبعض عناصر الإسلام السياسي الذي يصبو إلى نموذج قوة وتحد إسلاميين. لكن طهران نجحت في تقديم نفسها كقوة مهابة الجانب. تم اتهامها بتصدير الإرهاب ودعم القوى المتطرفة في العالم ودعم المجموعات الفلسطينية واللبنانية في صراعها مع إسرائيل، وتم فرض قيود عليها ومقاطعتها من أكثر من دولة وجهة، لكنها رغم ذلك أجبرت خصومها على الجلوس معها والتحدث إليها وسماع وجهة نظرها وتدريجياً تقبلها كما هي. ببساطة واصلت إيران تطوير قوتها العسكرية وتطوير قدراتها غير العادية خاصة في مجال التسليح والقدرات النووية. العالم صرخ، احتج، وقف ممتعضاً، هدد، ونفذ بعض تهديداته لكن طهران واصلت عملها رغم كل الضوضاء ولم تلتفت إلا لفرض الحقيقة التي سيكون لها ما بعدها والقائلة إنها قاب قوسين أو أدنى من امتلاك السلاح النووي. وفي المحصلة على العالم أن يتعامل مع طهران النووية. 


تبدو الحالة الكورية اكثر حدة حتى. فكوريا الشمالية لم تعارض واشنطن بل هددتها واستعملت في بعض إشارات التهديد بعض الجوانب العملية. مثل تطور صواريخ قادرة على الوصول إلى الأراضي الأميركية. لم تجد واشنطن زعيماً يتحدث عنها باستهزاء أكثر من الزعيم الكوري، لكن ما ميز الزعيم الكوري لم يكن الاستهزاء بل الثقة التي كانت تسم تصريحاته ضد واشنطن وفي الكثير من المرات حلفائها خاصة إسرائيل. أيضاً ماذا استطاعت واشنطن أن تعمل؟ صرخت وهددت ونادت وبادرت واستنكرت وشجبت وعاقبت وقاطعت، ولكن في نهاية المطاف فإن الأقوياء يعرفون أن الأزمات مع الأقوياء لا تحل إلا بالحوار والتراضي، لأن بديل ذلك هو الحروب المدمرة. وأي حروب تلك حتى يكون بمقدرة الخصم وصول المدن الأميركية، ولا يكون لديه رادع من قصفها بالصواريخ، لأنه يدرك أنه دون أنياب لا يمكن له أن يحمي نفسه. والدول حين تكون بلا أنياب تصبح حملاً لكن ليس حملاً وديعاً لأن حظيرة العلاقات بين الدول حيث تتصارع المصالح وتتقاتل القوى فإن الحمل الوديع لا يثير العطف بل يشجع على الاستقواء عليه. أليس هذا هو الحال العربي! أمر محزن، والمحزن اكثر أن العرب لا يتعلمون دروس التاريخ جيداً، أو أن المولى عز وجل قد ابتلاهم بما لا شفاء منه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد