تتناول هذه المقالة في مقدمتها تصوراً حول بعض أنماط الانتهاكات لحقوق الطفل الفلسطيني وخصوصاً في قطاع غزة ، والضمانات القانونية الأساسية لحقوق الطفل التي كفلتها أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان، ثم تتناول بشكل خاص الانتهاك المتعلق بحق الطفل في الحصول على مياه شرب نظيفة ومتطلبات مواجهته، ودور المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان بصفتها الآلية الوطنية لحماية المصلحة الفضلى للطفل لإبراز حق الطفل في الحصول على مياه شرب نظيفة وأدواتها لمناصرة هذا الحق.
يتعرض الأطفال الفلسطينيون عموماً لانتهاكات متعددة ناجمة عن سياسات الاحتلال، وعن تداعيات الأوضاع الداخلية الفلسطينية. فمن جهتها تقوم سلطات الاحتلال بانتهاك الحق في الحياة للأطفال الفلسطينيين، وتعمد لاعتقالهم تعسفاً، وتعذيبهم، وحرمانهم من الوصول الى مدارسهم، وكذلك تسبب عدوانها المتكرر في تدمير البنية التحتية اللازمة لتمتع الأطفال بحقوقهم الدنيا، وفي تدهور أوضاعهم النفسية والاجتماعية والثقافية.
ومن ناحية أخرى أدى تعثر جهود المصالحة في استمرار معاناة الاطفال بسبب غياب البرامج والخطط المتعلقة بقطاع الطفولة. لقد تسببت حالة الانقسام الفلسطيني في تقويض الاهتمام بحقوق الاطفال وخصوصاً في قطاع غزه، وتمثل ذلك في زيادة معدلات الفقر والبطالة وانتشار حالات التسول، وسوء الأوضاع الصحية، وانتشار سوء التغذية وفقر الدم، وتراجع المستوى التعليمي والصحي، وغياب مفاهيم رفاهية الأطفال، وبرامج الدعم النفسي والتنموي للأطفال، وادى الانقطاع المستمر والمتفاقم للكهرباء وما ينجم عنه من فصول دراسية معتمة، وبيوت باردة ومعتمة.... إلى حدوث معاناة جسدية ونفسية كبيرة للأطفال.
وفي سياق آخر فقد أسهم ضعف قدرات المكلفين بإنفاذ القانون في التعامل مع الأطفال الذين هم في خلاف مع القانون، في انتهاك الإجراءات القانونية السليمة عند القبض والتوقيف والتحقيق مع الاطفال ، والمساس بضمانات المحاكمة العادلة، وحرمان الاطفال من الوصول للعدالة، وغياب مفاهيم المساءلة والمحاسبة والتعويض.
وأدى غياب الوعي بالالتزامات التي يفرضها القانون الدولي لحقوق الإنسان، والتشريعات الوطنية الفلسطينية، وضعف أدوات ومؤشرات وآليات الرقابة، إلى مضاعفة الصعوبات والمشاكل التي يتعرض لها الإنسان الفلسطيني بشكل عام والطفل الفلسطيني بشكل خاص، تلك الحقوق التي كفلتها اتفاقية حقوق الطفل.
إن اتفاقية حقوق الطفل للعام 1989 تعتبر من أهم اتفاقيات حقوق الإنسان، وهي الاتفاقية التي تحظى بأكبر عدد من الدول التي صادقت عليها، حيث تتضمن الاتفاقية حق الطفل في الحياة، وحقه في أن يكون له اسم وجنسية، وحقه في التعليم والصحة وحرية التعبير والفكر والوجدان، وفي حرية تكوين الجمعيات والاجتماع السلمي، وحقه في المشاركة والحماية وعدم التميز، وفي أن ينمو بشكل سليم ومعافى، وهو ما يحتاج أولاً إلى بيئة صحية، تتيح للطفل أن ينشأ نشأة خالية من العقبات والمنغصات الصحية، خاصة وأنّ أي خطأ صحي قد يكلف حياة الطفل غالياً، أو قد يؤدي إلى عجز دائم لديه، لاسيما وأنه أكثر عرضة للأمراض من الشخص البالغ، وهو ما نصت عليه المادة 4 من اتفاقية حقوق الطفل حيث أكدت على أن للطفل الحق في قدر كاف من الخدمات الطبية وأنّه يجب أن يتمتع بفوائد الضمان الاجتماعي وأن يكون مؤهلاً للنمو الصحي السليم.
وكفلت المادة 27 من اتفاقية حقوق الطفل مستوى معيشي ملائم للأطفال: "تعترف الدول الأطراف بحق كل طفل بمستوى معيشي ملائم لنموه البدني والعقلي والروحي والمعنوي والاجتماعي" ونصت على أن " يتحمل الوالدان أو أحداهما والأشخاص الآخرون المسئولون عن الطفل، المسؤولية الأساسية عن القيام، في حدود إمكانياتهم المالية وقدراتهم، بتأمين ظروف المعيشة اللازمة لنمو الطفل" كما ووضعت اتفاقية حقوق الطفل التدابير اللازمة لمساعدة الوالدين وغيرهم من المسئولين عن الطفل على تطبيق هذا الحق، بحيث "تتخذ الدول الأطراف، وفقاً لظروفها الوطنية وفي حدود إمكانياتها، التدابير الملائمة من أجل مساعدة الوالدين أو الأشخاص المسئولين عن الطفل، على إعمال هذا الحق وتقدم عند الضرورة المساعدة المادية وبرامج الدعم، ولاسيما فيما يتعلق بالتغذية والكساء والإسكان، كما كفلت الاتفاقية حق الطفل في التعليم النوعي الذي يسهم في إحداث النماء، و وتيسير الوصول إلى المعرفة العلمية والتقنية، وفي الراحة ووقت الفراغ، والمشاركة بحرية في الحياة الثقافية وفي الفنون، وحمايته من جميع أشكال الاستغلال الجنسي واشكال الاستغلال الأخرى الضارة وعلى حماية الأطفال من التعذيب والحرمان من الحرية
وفي واقعنا الفلسطيني في قطاع غزة يعاني المواطنون بلا استثناء من تردى المياه وتلوثها حيث بلغت نسبة تلوث مياه الشرب في قطاع غزة 90% ، وهذا ما أكدته نتائج أطروحة علمية لرسالة ماجستير في جامعة الازهر بغزة قام به الباحث عبد الباسط ماضي، حيث تضمنت دراسته توصية للعمل على استيراد مياه الشرب من خارج الدول الاقليمية، لتجنب كارثة صحية لمواطني قطاع غزة، كما أصدرت سلطة المياه في قطاع غزة تقريراً طالبت فيه بمراقبة محطات تحلية المياه التي تقوم ببيع مياه الشرب للمواطنين، حيث أشارت أن مسوحات سلطة المياه أظهرت بأن 68% من محطات التحلية غير مرخصة من قبل سلطة المياه، وأن 40% من المحطات تستخدم المياه المستخرجة من آبار غير مرخصة. والأمر الخطير هو ما أظهره الفحص المخبري بأن عدداً كبيراً من محطات التحلية تنتج مياهاً تحتوي على ملوثات بيولوجية خطيرة على الصحة العامة بسبب عدم اتباع اجراءات الصحة العامة عند تحليه وتخزين وتعقيم وتوزيع هذه المياه. وهذا ما ينعكس بشكل خطير على صحة المواطنين وخصوصاً الأطفال بصفتهم أغلبية السكان حيث يشكلون 54% من عدد سكان قطاع غزة، وهم من الفئات الاكثر هشاشة في المجتمع.
وحيث أن الحق في مياه شرب نظيفة هو في صلب منظومة حقوق الانسان، ويندرج في إطار الحق في مستوي معيشي لائق، ويتعلق بالحق في الصحة، بموجب أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان والتشريعات الوطنية الفلسطينية، فمن الواجب تضافر جهود أصحاب الواجب في سلطة جودة المياه لتوضيح الحقائق وآليات المعالجة، مع ممثلي منظمات المجتمع المدني، والبلديات والحكم المحلي، وممثلي وزارة التربية والتعليم و الاونروا من أجل التفاكر حول آليات التخفيف من غوائل تلوث مياه شرب الاطفال.
ولا بد من قيام المؤسسات الرقابية على حقوق الأطفال من تلقى شكاوى الأطفال ومتابعتها مع الجهات ذات العلاقة وخصوصاً القاطنين منهم في المناطق الحدودية والمهمشة، وكتابة التقارير، ورصد الانتهاكات ذات الصلة بحق الاطفال في الحصول على مياه شرب نظيفة، وتشجيع مبادرات المجموعات القطاعية والائتلافية ومنظمات حقوق الطفل على دمج مبادرات تعزيز وحماية حق الطفل في مياه شرب نظيفة ضمن خططهم وبرامجهم.
ومن المهم أيضاً الاستمرار في الرقابة على التشريعات المتعلقة بحقوق الطفل، ومتابعة السياسات الحكومية وتقييم مدى وفائها، أو تقاعسها، عن اتخاذ التدابير لحماية حقوق الطفل بموجب الانضمام للاتفاقية الخاصة به.
ولا بد من تحفيز الدور الاعلامي وتفعيل مساحات اوسع على أدوات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة الوعي بحق الطفل في مياه شرب نظيفة.
ويبرز في هذا المقام الدور الجوهري للمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان المتمثلة بالهيئة المستقلة لحقوق الانسان، من خلال قيامها بدور الآلية الوطنية لتعزيز وحماية المصلحة الفضلى للطفل المكفولة بأحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان واتفاقية حقوق الطفل للعام 1989 والمكفولة كذلك بنصوص التشريعات الوطنية وقانون الطفل الفلسطيني للعام 2004، حيث تقوم الهيئة بتعزيز وحماية المصلحة الفضلى للطفل من خلال نهج قائم على حقوق الانسان يُلزم أصحاب الواجب في المؤسسة الرسمية الفلسطينية بالوفاء بالتزاماتهم بموجب أحكام القانون، ووفقاً لمتطلبات وتبعات الانضمام لاتفاقيات حقوق الانسان، وبأن حماية حق الطفل في الحصول على مياه شرب نظيفة هو أمر قائم على الإلزام وليس على التفضل والاحسان، وبالتالي يجب الكشف عن الخطط والبرامج لمواجهة كارثة تلوث المياه، وتدابير تمكين الطواقم في المؤسسة الرسمية لمواجهة الأمر، وحجم المشاركة الفاعلة في رسم السياسات مع قطاعات المجتمع ومؤسسات المجتمع المدنية وحتى مشاركة الاطفال انفسهم، وتدابير منع التمييز على اساس السن للحصول على مياه شرب نظيفة والتدابير الرقابية وأدوات المساءلة والمحاسبة.
وفي سياق يعكس قلقاً متصاعداً إزاء الخطر الذي يتهدد حقوق الأطفال في قطاع غزة، تنظم الهيئة المستقلة لحقوق الانسان حملة لمناصرة حقوق الطفل تهدف إلى تعزيز الوعي بحقوق الطفل، وتعميم مبادئ حماية حقوق الطفل وإبراز واقع حقوق الطفل، وسبل تعزيزها وحمايتها والتوعية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالتوازي مع الحقوق المدنية والسياسية للطفل، والمساهمة في حشد وتوحيد الأنشطة ذات العلاقة بحقوق الطفل والنهوض بالسياسات الوطنية إزاءها وتشجيع أصحاب الواجب في دولة فلسطين للوفاء بالتزاماتهم لحماية حقوق الطفل بموجب الانضمام لاتفاقية حقوق الطفل، وتعزيز الشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني
وإعمالاً للثقة الراسخة للدور الذي يلعبه الإعلام والفن في خدمة قضايا حقوق الانسان، تنظم الهيئة مسابقةً فنيةً اعلاميةً وحقوقيةً لأفضل ثلاثة أفلام قصيرة مقترنة بجوائز مالية حول حق الطفل في قطاع غزة في الحصول على مياه شرب نظيفة، تشجع من خلال هذه المسابقة الطاقات الشابة من الاعلاميين الشباب من كلا الجنسين للمشاركة في حماية وتعزيز حقوق الاطفال النمائية والصحية باستخدام ادوات الفن والاعلام لإذكاء الوعي بحق الطفل في الحصول على مياه شرب نظيفة.
إن إيلاء الاهتمام بحقوق الطفل هو أولوية تنموية لحماية مجتمعنا ومستقبله ونهضته، تضع كرامة الطفل وصحته الجسدية والنفسية والعقلية موضع الاهتمام من خلال اجراءات وتدابير تستند إلى نهج قائم على حقوق الانسان.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية