تبدو النكبة فلسطينية، فيما تبدو النكسة حدثاً عربياً. حتى على صعيد الصياغة والكلمة فإن «النكبة» أقرب ليس للواقع الفلسطيني فحسب، بل أيضاً للمحكي الفلسطيني والدارج من القول في فلسطين. وهذا صحيح أكثر على صعيد الواقع فالنكبة تمت للشعب الفلسطيني الذي حاولت آلة الاحتلال والاستيطان اقتلاعه من أرضه وتهجيره عنها وتغيير معالم المكان حتى يصبح مكاناً آخر، هكذا شعر الفلسطينيون بأنهم «انتكبوا»، وهو اشتقاق يكشف حجم الحدث وهول الواقعة، فالنكبة ككلمة وكمعنى تشير إلى شيء مؤلم. فالمعنى المحسوس منه، بجانب الدلالة القاموسية، يغمر الروح بالكآبة، ويشيع حزناً من نوع خاص في النفس.  فالنكبة ليست فعل، بل هي صيغة وقوعه. بالمقابل النكسة تبدو اشتقاقاً رسمياً. الذي جرى يوم الخامس من حزيران هو أن جيش الدولة الصغيرة التي كانت الجيوش العربية تتوعدها بالنهاية، وتقدم النذور لجماهيرها العريضة بأن النصر قادم، استطاعت أن تهزم جيوش هذه الدول وتسحقها دون بذل الكثير من المجهود الحربي، بل إن هذا الجيش احتل مناطق في أراضي هذه الدول. إسرائيل لم تحتل بقية مناطق فلسطين وبالتالي أجهزت على فلسطين التاريخية وتوسعت على كامل الجغرافيا، أيضاً احتلت مناطق من مصر، شبه جزيرة سيناء، ومناطق من سورية، هضبة الجولان. بالتالي باتت هذه الدولة تحتل أجزاء من أقوى دولتين عربيتين، إنهما الدولتان اللتان كانت الجماهير العربية العريضة تعقد الآمال عليهما لمحو الدولة اللقيطة. هذا لم يحدث، ما حدث هو العكس. 


الغريب في الأمر أن هذه الهزيمة المخزية التي لم تجر حتى الآن مراجعات حقيقية من أجل الكشف عن طبيعة ما جرى، بعيداً عن الندب وبلاغة النعي وجلد الذات ربما، وهو ما احترف الأدب العربي فعله وتصويره بنجاعة، هو توصيف ما جري بوصفه مجرد نكسة، مثل أن ينتكس الجسد، أو يعتل، في إحياء مخفف للهزيمة. صحيح أن ما جرى حدث جليل، لكن يبدو أن النظام الرسمي العربي أراد أن يصور ما جرى بوصفه مجرد فعل حربي تم هزيمة الجيش خلاله، وليس كارثة من نوع خاص. مرة أخرى شمولية التوصيف الفلسطيني الشعبي لما جري في أيار 1948 كان أكثر تعبيراً وأدق توصيفاً للواقع من المراوغة البلاغية الرسمية العربية في توصيف ما جرى بالخامس من حزيران.


أيضاً هناك جزء يتعلق بالسابق يكشف طبيعة وخصوصية النكسة بعيداً عن النكبة. فالعمق العربي للنكسة هو أهم ما يميزها. النكبة صدمت الفلسطيني، أصابته بصاعقة في وعيه وفي بحثه عن مستقبله، لأنها عنت في جوهرها وفعلها المادي أن وجوده بات مهدداً وأن المستهدف الأساس من فعل النكبة هو طمسه عن الوجود وتحويله إلى جماعات تذوب في محيطها الجديد ولا يعود لها وجود. مدن كاملة اختفت وقرى سويت بالأرض وجرت عمليات تشويه للمكان بغية جعله لا يتطابق مع ذاكرة من تم تهجيرهم منه عنوة. أما النكسة فما جري بالنسبة للفلسطينيين كان استكمال ابتلاع أرضهم. في جزء منها ساهمت النكسة في التمام شمل بعض الشعب الممزق من خلال خلق التواصل الجغرافي ومن ثم السياسي بين سكان الشريط الساحلي الذي تبقى من فلسطين التاريخية (قطاع غزة ) مع الضفة الغربية لنهر الأردن ومنطقة الأغوار. النكسة جعلت سكان المنطقتين واللاجئين المهجرين في كل منطقة يتلاقون ويتفاعلون ويطورون المصالح المشتركة النابعة من الهم الواحد. وإلى جانب ذلك تم خلق تلك المساحة من التواصل بين ما نبقى من فلسطين بعد النكبة وما ضاع منها، بمعني بين الضفة الغربية وقطاع غزة من جهة وبين بقية فلسطين التاريخية. في جزء منها خففت النكسة من آثار النكبة، لكنها خلفت آثاراً أكثر وقعاً في المستقبل. وبالعودة إلى النقاش السابق فإن النكسة ساهمت بشكل كبير في تطوير الوطنية الفلسطينية التي بدأت دفقتها الأقوى قبل سنوات من احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة وفلسطنة النضال التحرري الفلسطيني والبندقية الفلسطينية المقاتلة. المؤكد أن النكسة سهلت من مهمة تطوير الوطنية الفلسطينية من خلال تكامل نضال الشعب الفلسطيني المشترك في كل أماكن تواجده ضد الاحتلال الغاشم لأرضه. الوطنية الفلسطينية التي عرفت أول تمظهراتها خلال الانتداب في وجه الوجود الصهيوني الاستيطاني، أخذت بعداً آخر بعد النكبة وما نتج عنها من تشتيت للشعب، ثم كان للنكسة دور كبير في دفعها خطوة أخرى إلى الأمام. 


النكسة شكلت، في المقابل، حالة خاصة في الوعي العربي. صحيح أن المستوى الرسمي حاول التخفيف من وقعها وتوصيفها بمجرد نكسة، إلا أن تأثيرها على الوعي العربي كان أكثر وقعاً. فالدولة التي أنشئت بعد تفكك الاستعمار والنضال من أجل ذلك لم تنجح في إعادة بناء نفسها وتثوير قدراتها ومقدرات شعبها حتى ترتقي إلى مستوى المطلوب. بل إنها وبعد عقدين من البلاغة وأمام أول اختبار انهارت أمام العدو الذي كانت تصوره بأوهن من بيت العنكبوت. سيرافق هذا الكفر بالدولة الوطنية إجراءات قمعية من أجل تثبيتها وتعويض الشرعية المفقودة، خاصة ضد اليسار الملتهب، وضد الإسلام السياسي الذي رأي منذ البداية في الدولة الوطنية كياناً ينتقص من طموح الأمة الغائب. وبالتالي سينتج عن هذا رحيل الانتلجنسيا والنخب الأدبية والمعرفية هرباً من بطش الأنظمة بعد أن تعلن طلاقها مع العسكر الذي آمنت به كرافعة للمدرنة والتقدم، وتحول الإسلام السياسي إلى العنف وخروج الجماعات الإرهابية من عباءة الإخوان. على مستوى الأدب من المؤكد أن نكسة حزيران كما يقول المثل الشعبي «اشتغلت شغلها» في رحم الأدب العربي وظهرت نصوصاً ذات قيمة عالية. لكن المفارقة رغم ذلك أن أحداً لا يمكن أن يقول بأي شكل من الأشكال ولا بالتورية: إن الفلسطينيين والعرب نجحوا بعد سبعين عاماً من النكبة وواحد وخمسين عاماً من النكسة في تجاوز آثارهما. فقط ربما أن الفلسطينيين بسبب فعلهم الكفاحي وتطور هويتهم الوطنية باتوا أكثر تحصناً من الاندثار.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد