لم يعد هناك حديث عن المصالحة؛ فقد أسدل الستار عن واحدة من آخر محاولات الفلسطينيين لترميم ما انكسر لديهم، ذلك بدا أكبر كثيراً من قدرتهم، فالتجربة والكفاءة لم تنضجا بعد لاستيلاد نظام سياسي موحد، والعقل الشرقي العربي يرخي بسدوله على كل تفاصيل الإقصاء وتفرد الحكم بعيداً عن الشراكة، والإسرائيلي يقف حارساً أمنياً بما يملك من إمكانيات هائلة ساهراً على إدامة هذا الانقسام.
منذ توقيع اتفاق المصالحة في تشرين الأول الماضي، قال عاموس يدلين، رئيس مركز دراسات الأمن القومي، ورئيس الاستخبارات السابق: إن الاتفاق سيتبخر. وقال آخرون: إن على إسرائيل أن تستخدم كل إمكانياتها لمنع المصالحة، وقد كان... وعدنا إلى ما قبل المربع الأول بل أسوأ لأن نهاية التجربة ست فتح على آفاق مدعاة للقلق، خاصة ونحن نعرف جيداً المشروع الإسرائيلي الذي بدأ يتبلور في النصف الأول لثمانينيات القرن الماضي إثر تقارير الديموغرافيا التي قدمتها مراكز البحث العلمي، والتي تحولت إلى سياسة تستدعي إنزال جزء من الحمولة العربية من سفينة إسرائيل حتى تستمر في السباحة.
محاولات المصالحة بدأت بقدمها اليسرى، وكان واضحاً أن نجاحها يحتاج إلى معجزة في زمن اللامعجزات.. حاولنا أن نشير لذلك لكن ضغط المتفائلين وحلم المتعلقين بقشة النجاة كان كبيراً إلى درجة أن بعض النشطاء حاولوا بديماغوجيا لا تليق بالسياسة تحميل الكتاب مسؤولية فشل المصالحة؛ لأنهم يقولون الحقيقة المرة التي لا يريد أن يسمعها أحد وسط عالم عربي يعيش على الحلم والأسطورة، فتراجعنا قليلاً نحو بصيص الأمل المسدود إلى أن تبخر الاتفاق وتراجع الحالمون والمنتظرون للمعجزة دون أن يقرؤوا الواقع ودون التجهيز لها على الأرض وفي بنية السياسة والمؤسسة التي لم تعد كذلك منذ أن انقسمت إدارياً وجغرافياً ودخلنا رحلة التيه الطويلة.
الحقيقة الأكثر وضوحاً أن خيار المصالحة هو الخيار الوطني الوحيد أمام المتصارعين المتعبين والعائدين من معارك العبث، وأن الانقسام هو الخيار الإسرائيلي الوحيد، وأمام كل هذا الوضوح نحن أمام خيارين إما الخيار الوطني أو الخيار الإسرائيلي هكذا بلا تجميل للكلمات وبلا تحميل للمسؤوليات، ومن لا يعرف أن خيار المصالحة مكلف جداً فهو لا يعرف أن كل الخيارات الوطنية كانت على امتداد تاريخنا باهظة الثمن، وإذا كان هناك أي منا يعتقد أنه سيذهب لمصالحة بلا ثمن فهو مخطئ تماماً، وعادة ما يكون الخيار الإسرائيلي بلا تكلفة شخصية أو حزبية ولكن الكارثة في الثمن الوطني الذي لا نستطيع دفعه بعد كل هذا الدم الذي سال في كل الأماكن.
في الخيار الإسرائيلي والانقسام تتويج لانتصار المخطط الإسرائيلي الذي أعد منذ عقود والقائم على التخلص من غزة وإخراجها وتشكيل إدارة للفلسطينيين فيها. وهذا كان روح ومضمون أوسلو عندما عاد ياسر عرفات ليدير السياسة والمؤسسة من غزة وأعطته إسرائيل مطاراً وكادت تعطيه ميناء لكنه قلب الطاولة عندما أدرك أن هذا هو ما تستدرجنا إليه إسرائيل، ويبدو أن إسرائيل التي اغتالته أخرجت الخطة (ب) من الأدراج «خطة الانقسام» لنعود إلى نفس المشروع، غزة والكيانية السياسية بغزة في ظل فقر المستوى الحالي من السياسيين منذ سار المشروع كسيحاً بخطى واثقة دون عراقيل.
الحالة الفلسطينية تبدو كمن فقدت وعيها ودخلت غرفة العناية المكثفة وسلمت نفسها لجراح السياسة الإسرائيلي الذي يستعين بأجهزة دولية ليحرك مريضه كما يشاء، فخلال الأسابيع الماضية كانت غزة تقدم نموذجاً مدهشاً في البقاء والتحدي على الحدود في مرحلة صعبة من تاريخ القضية الفلسطينية التي يتم التحضير لها في سيناريو هو الأسوأ منذ أن بدأ العمل السياسي الفلسطيني، كانت غزة ترفع رأسها في مواجهة القادم وتعيد إحياء القضية على المستوى الدولي، كان يمكن أن يدفع ذلك بحس المسؤولية الوطنية نحو الالتفاف والتوحد والتسامي على الانقسام واشتراطاته لكن يبدو أن الأمر يسير معاكساً.
ما ظهر في الآونة الأخيرة من حالة فقر مدقع وتفاصيل تعدت إنسانيتها؛ في ظل ما تتعرض له غزة من حالة إفقار نتجت عن وقف دفع الرواتب وفي ظلال غبار المصالحة وزيادة الاختناق، كانت الخشية من أن تبدأ غزة بالبحث عن أنابيب الحياة بعيداً فلا يمكن أن تستمر هكذا، ومن الجنون الاعتقاد أن الأمر يسير بشكل طبيعي أو أنه سينتهي إلى مصالحة، هذا البحث يبدو أنه قد بدأ من خلال الوساطات التي كانت خلال المسيرات ولا تزال والذي تؤكده بعض الإشارات.
بالأمس كان عضو المكتب السياسي لحركة حماس يؤكد أن «هناك تحركات من خلف الكواليس لتخفيف الحصار»، والإسرائيليون يتحدثون عن شيء مشابه والمجتمع الدولي كان يستبق الجميع هذا العام بثلاثة مؤتمرات حول غزة، بالإضافة لعرض أوروبي جرى الحديث عنه والإشارة إلى إدارة أوروبية لغزة، ليس مؤكداً بعد كل تلك السيناريوهات، ولكن المؤكد أن هناك حركة كبيرة صامتة نتجت حول واقع غزة ومستقبل غزة.
الواقع القائم في غزة يتطلب تدخلاً عاجلاً والحالة الإنسانية التي انهارت تستدعي إغاثة سريعة؛ فقد تحول الناس في القطاع إلى جملة متسولين وانعدمت شروط الحياة بأبسط حالاتها، وهذا الواقع الذي يستدعي كل هذا التدخل هو من صناعة الفلسطينيين أنفسهم بغض النظر عن الاتهامات، ولكن أمامنا نموذج انهار لأن أحد أطرافه قرر أخذه بعيداً عن السلطة والطرف الآخر يوقف الرواتب لنجد أنفسنا أمام الانهيار ويصبح التدخل الدولي وفصل غزة مسألة ضرورية وطبيعية في آن.
الحديث عن تدخل إنساني فقط، ولكن حركة التاريخ تستعصي على فهم مقولة فصل السياسي عن الإنساني، خاصة أن الأمر يتعلق هنا بإسرائيل التي لا شيء يتم في غزة بمعزل عن مشروعها. والسؤال: ماذا لو انتهت كل هذه المساعي باسم الحل الإنساني إلى اتفاق مع حركة حماس حول غزة لوحدها؟ هذا السؤال الذي يجب أن يثير القلق لدى كل المشتغلين في السياسة من الاستدراج للفصل بسبب الأزمة الإنسانية وكل الحريصين على المشروع الوطني، أما غيرهم فليناموا مطمئنين لأننا نسير كما يريد الطبيب الإسرائيلي.
لم يبق الكثير من الوقت لترف الحوار والنقاش والكتابة والجدل والشعارات حيث نسير بلا هدى، وهي الفرصة الأخيرة قبل السقوط الأخير في المربع المرسوم بعناية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية