النكبة ، ليست الأرقام مهمة بحد ذاتها، لكن لها وقعاً خاصاً في الكثير من المرات. سبعون عاماً مرت على تلك اللحظة الأليمة التي تمت خلالها واحدة من أكثر محاولات الإبادة والتطهير العرقي في التاريخ الحديث. اللحظة التي لا يخلو بيت فلسطيني من بعض تفاصليها أو تداعياتها. ويمكن لشاب مثلي ولد في مخيم للاجئين في أوائل سبعينيات القرن الماضي، بعد ربع قرن من الكارثة المهولة، أن يسرد الكثير من التفاصيل التي سمعها على ألسنة من عاشوا الحديث الرهيب والجريمة الكبرى، لكن حتى تلك الأجيال اللاحقة ما زالت تمتلك في وعيها الكثير من تفاصيل المذابح والمحارق والمجازر التي ارتكبت بحق المواطنين العزل.


تلك اللحظة لا يشبهها شيء. صحيح أن الكثير من الشعوب تعرضت للإبادة وتعرضت لمحاولات التصفية وبعضها أعملت فيه آلة القتل والدمار والتشريد ما أعملت في جسد الشعب الفلسطيني، وصحيح أن الكثير من الجماعات البشرية تمت مطاردتها بكل أنواع الأسلحة التي كانت متوفرة في وقتها، وصحيح أن التاريخ ليس إلا سلسة حروب يسرد وقائعها المنتصرون في تجاوز فج لرواية المقهورين، لكن هناك حقيقة لا يمكن تجاوزها في كل ذلك لا تتشابه مع أي من خبرات الشعوب السابقة. حقيقة تتعلق بالشعب الفلسطيني وبما جرى له وما  كان يراد له من أهوال. حقيقة فقط الفلسطينيون يفهمونها جيداً ويعرفون مدى وقعها عليهم وعلى الأجيال اللاحقة.


الحقيقة تقول: إن كل شعوب الأرض الذين تمت بحقهم أفعال شنيعة مشابهة وجدت في التسويات التي جرت بعد ذلك حلولاً ولو مرضية جزئياً. كل المذابح تم الاعتذار عنها بطريقة أو بأخرى. كل الآلام تم مناقشتها من أجل الغفران والمعذرة. كل من تعرض للأذي وجد في نهاية المطاف من يجلس ويتحاور معه من أجل تسوية ما تم. بكلمة أخرى، الأمر لا يتعلق فقط بما جرى، بل بما جرى بعد ذلك. ما قامت به العصابات الصهيونية من جرائم بحق الشعب الأعزل من قتل وتدمير وقتل للحوامل والرضع والشيوخ والأطفال شيء غير مسبوق في التاريخ. ليس فقط لبشاعته وهذه وحدها غير مسبوقة ولكن أيضاً للنكران التي تم مواجهة الألم الفلسطيني به. لقد أعملت الصهيونية وحلفاؤها في جسد الحدث الكثير من التشويه بغية تظليل الرأي العام العالمي والتغطية على حقيقة ما جرى. النكران الذي بات سمة من سمات التعامل مع الملف الفلسطيني. وصارت المفارقة أن الفلسطيني مطلوب منه أن يثبت أن نواياه حسنة تجاه قاتله قبل أن يتم الحديث مع القاتل حتى يقبل الضحية شريكاً. مفارقة غريبة لم يسبق لها أن حدثت حتى في مسلسلات الرعب والإجرام. النكران أسس لطبيعة علاقة الفلسطينيين مع العالم وهو قائم على نسيان أساس المشكلة التي بدأت معها الأزمة الفلسطينية. 


جوهر القضية الفلسطينية هو حقيقة ما جرى خلال عام من المذابح والقتل والتشريد. إنها اللحظة المعروفة بالنكبة. دون أن نتلمس هذه الحقيقة فإن أي فهم للصراع سيكون منقوصاً. ربما أن أكبر خطأ ارتكبته المقاربات السياسية الفلسطينية بعد تبني منظمة التحرير للبرنامج المرحلي أن الرواية الحقيقة تراجعت أمام الرواية التي بات يجب التأكيد عليها من أجل إنجاز الاستقلال ولو على جزء يسير من الوطن. حتى أن العالم بات متيقناً بأن أساس المشكلة هو ما جري في الخامس من حزيران وليس ما جري في أيار 1948. هذه مغالطة أظن أننا ساهمنا في حدوثها ويجب العمل على تصحيحها لأنها تضر كما ضرت خلال العقود الأربعة الماضية بمصالحنا الوطنية.


جوهر القضية الفلسطينية هي النكبة. الأزمة تبدأ منها. ولا يمكن فهم المشكلة الحقيقية إذا لم نتوقف ملياً أمام ما جرى ونفهمه. أما ما جرى في الخامس من حزيران فليس إلا من توابع النكبة. وعليه لا يمكن لحدث فرعي أن يتقدم على الحدث المركزي. مرة أخرى نحن ساهمنا في ذلك. ربما دون قصد. ربما لأننا أردنا أن ننجز الممكن في ظل المتاح. وهذا طبيعي. لكن من غير الطبيعي ألا يصار إلى تأكيد الرواية الحقيقية والتأكيد على الحق الأزلي للشعب الفلسطيني المتمثل في حقه بالعودة إلى دياره التي هجر منها عنوة. وعليه ففي الذكري السبعين للنكبة علينا أن نعيد اشتباكنا مع العالم الخارجي للتأكيد على أن أزمة الشعب الفلسطيني ليست مجرد شعب يريد دولة، وهذا مطلب مشروع ومهم، ولكنها أزمة شعب تم تهجيره من بلاده تحت قوة السلاح، وأن الحل الأمثل لكل الأزمات التي ترتبت على ذلك يكمن في عودته إلى بلاده. ليس من العدل أن يعيش الآخرون في بيوتنا ونتطلع نحن إلى العيش على الهامش أو ضيوفاً في دولة ثنائية القومية معهم. بهذا نقبل بالرواية القهرية على حساب الرواية العادلة. الباطل لا يدوم مهما امتلك من مصادر القوة، والحق لا يموت مهما تكالبت عليه الظروف. لكن إذا كان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما في أنفسهم فإننا بحاجة لأن نؤمن بذلك.


عليك أن تكون فلسطينياً حتى تفهم النكبة. النكبة شيء فلسطيني بامتياز. من ضمن الأشياء الكثير المطلوبة تحويل رواية النكبة إلى جزء من رواية العالم عما جري في هذا الجزء من الكوكب. كم هو مؤلم أن يتم اختصار ما جري من طردنا من بلادنا بأنه "قيام إسرائيل" وكأنها قامت من العدم ولم يكن ثمة شيء قبلها أو أنها وجدت في الفراغ.


دروس النكبة كثيرة وهي أكثر من مجرد الكلمات والمظاهرات ووقفات التضامن، تتطلب عملاً جاداً بغية إحداث تغييرات ولو تدريجية ولكن تراكمية تساهم في تقريب إنجاز الأهداف الوطنية. جزء كبير من هذا يجب أن يتم عبر إعادة سرد رواية النكبة بطريقة تقدم المطالب الفلسطيني على حقيقتها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد