ضربة استعراضية، هكذا وصفها معظم المراقبين والمحللين الذين تابعوا الهجوم الثلاثي على سورية فجر أمس، فقد تلقت سورية أكثر من مائة صاروخ ضربت أماكن عدة، تركز الجزء الأكبر منها في العاصمة دمشق وبالرغم من أنه الهجوم الأعنف على سورية إلا أنه لم يصب جنديا سوريا واحدا أو خسائر كبيرة.


حتى يوم الخميس الماضي الذي كان يغرد فيه الرئيس الأميركي على صفحة «تويتر» ذاهبا إلى أقصى مدى من التهديد الموجه لسورية وحلفائها، إحدى التغريدات كانت توجه مباشرة لروسيا وكانت موسكو ترد بمنطق التحدي ما جعل العالم يعتقد أن حربا قوية قادمة لأن كلا من طرفي الأزمة يقف خلفه محور ممتد ولديه من القوة ما يمنع أحدهم من النزول عن شجرة التصعيد.


لكن بعد مرور ليل الخميس، تراجعت حدة اللهجة الأميركية، وكانت التساؤلات حول قدرة الرئيس ترامب على ابتلاع التصريحات العنيفة التي أطلقها لأن في ذلك ما يشكل مساسا بهيبة القوة العظمى وإن لم تظهر وحيدة على الحلبة السورية لكنها لا تستطيع تمرير الأمر، وهو ما وقع فيه رئيس عاقل مثل الرئيس باراك أوباما عندما تعرض لحملة كبيرة من الضغوطات العام 2013 بعد أن هدد بضرب سورية إذا ما استعمل السلاح الكيماوي ثم ظهر الكيماوي آنذاك ليجعل موقف الرئيس كما قال في مقابلة مع مجلة «أتلانتك» الشهيرة موقفا ضعيفا أمام الضغوطات من قبل الخارجية الأميركية ومراكز الأبحاث والسعودية وقطر وقادة الجيوش الأميركية وإسرائيل ما دفعه حينها للبحث عن مخرج وجده لدى خصمه الرئيس الروسي بوتين الذي اقترح عليه تجريد سورية من السلاح الكيماوي ليخرج من المأزق وقد كان.


لذا كان السيناريو الأقوى أن تضرب الولايات المتحدة حفاظا على هيبة رئيس متسرع يتحدث بلا ضوابط وكاد يوقع العالم في ورطة وحرب قد تبدأ في دمشق، ولكن الحريق قد يمتد على مستوى الإقليم والقواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في الدول العربية وفي البحار وقد تذهب أبعد إلى حيث أوروبا فهل ساعد بوتين خصمه ترامب هذه المرة أيضا بالنزول عن الشجرة بضربة محسوبة بدقة ومتفق عليها؟


هذا هو الاحتمال الأبرز لأن توازن القوى بين الجانبين كان ينذر بحريق عالمي وبات واضحا أن الحلف الذي تقف دمشق في محوره لن يسمح بسقوطها، فروسيا التي أصبحت تدير التفاصيل ليس فقط العسكرية بل المفاوضات مع المسلحين وتفاصيل باصات نقلهم والتي تعرف أن سقوط سورية يعني كسر أقدامها، أما «حزب الله» الذي لم يحتفظ بالصمت فهو يدرك تماما أن سقوط دمشق يعني الانتقال للقضاء عليه أو تجفيفه وخنقه في أحسن الأحوال وهذا ما قاله يعقوب عميدور مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق منذ بداية الأحداث في سورية.


لو كان هناك هجوم يستهدف وجود الدولة والنظام في سورية ولو أن الولايات المتحدة كانت ستشن هجوما على نمط العراق أو على نمط ليبيا مثلا، فإن إيران كانت ستتحرك في العراق وقد قامت باستعراض تلك الحركة عندما حاصرت قوات الحشد الشعبي في العراق قاعدة الزهراء الجوية الأميركية وكذلك قاعدة الأسد التي التفت حولها ما سميت عصائب أهل الحق حيث يتوزع 40 ألف جندي أميركي في 12 قاعدة عسكرية هناك، وهي الرسالة التي وصلت للبنتاغون الذي أعطى أوامره بعدم تحريك أية طائرة من قاعدة الزهراء للمشاركة في الهجوم على سورية.


قد تبدأ في دمشق ولكن ستنتقل إلى بغداد ناهيك عن تهديدات «حزب الله» لإسرائيل، وهو ما جاء على لسان الأمين العام للحزب الذي تعتبر إسرائيل أنه يفعل ما يقول ولديه من المصداقية ما يجعلها دوما تقوم بتحليل كل كلمة يقولها وكل حركة للجسد وقد تمتد الأزمة ما يجعل المنطقة جميعها تدخل في حالة حرب غير محسوبة النتائج قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.


لكن، كل هذا الاستعراض المسرحي الذي يبدأ من «تويتر» وعلى ظهور البوارج وحاملات الطائرات وينتهي في قاسيون والبرزة على الأرض العربية وكل تلك الاتفاقيات لحفظ ماء وجه الكبار بالرغم من أن الضربة تعتبر مساسا كبيرا بالهيبة الروسية، إلا أن المساس الأكبر كان بالهيبة العربية غير المحسوبة في موازين الصراعات الكبرى، فلا أحد يأخذ العرب بجدية وتلك واحدة من سخريات التاريخ العربي الممتد منذ قرون حيث كان ولا زال مسرحا لصراعات الدول الكبرى على الجسد العربي المثخن بالإهانة.


ليس سرا أن الضربة على سورية كانت في الجانب الأكبر منها مدفوعة الثمن أظهرت الجيش الأميركي كمرتزق حيث يتعامل الرئيس الأميركي التاجر بلغة الحسابات والصفقات لأنه كان يعرف أن الانسحاب الأميركي من سورية «لسخرية القدر أيضا» يشكل هزيمة لدولتين نفطيتين هما قطر والسعودية اللتان استثمرتا كما قال رئيس الوزراء القطري السابق حمد من جاسم المليارات لإسقاط الأسد، لذا كان التصريح الأميركي الغريب منذ أسابيع بالإعلان عن رغبة الولايات المتحدة الأميركية سحب قواتها من سورية لأنه لم يعد لديها ما تفعله وأن كلفة البقاء عالية .. كان يقول ذلك وعينه على الأموال الخليجية ومن هنا كانت الصواريخ أشبه بمقاولة تجارية أقرب منها لفعل الحروب.


فلسطينيا، كان الموقف أكثر نُبلا تجاه ما اعتبرته الفصائل عدوانا على سورية لأن الفلسطينيين يتعرضون لعدوان سياسي مشابه ويدركون أن نجاح الغطرسة الأميركية في سورية سيعطي لإدارة الرئيس الأميركي دفعة قوية للانتقال لضربهم سياسيا وكذلك لأن القوى والفصائل الفلسطينية لم تُضع بوصلتها وهي تقرأ التحالفات في المنطقة وتدرك أن تحالفا تكون إسرائيل جزءا منه هو تحالف معاد للقومية وللعروبة ولا تقبل أن تصمت حتى فالصمت هنا يعني خذلان دولة عربية لصالح حسابات صغيرة.


الاعتداء الأميركي البريطاني الفرنسي العربي على سورية بشكله الذي حصل يعني أن للقوة حدودا وأن الدولة السورية باقية ولا خطر عليها وأنها ستستمر في استعادة أرضها، وتلك كانت ردة فعل على هزيمة جيش الإسلام في دوما فقد كانت هزيمته ضربة كبيرة لاستثمار النفط هناك ولكن أغلب الظن أنها ردة انتقامية عابرة فتوازن القوة لا يسمح بحروب واسعة وأميركا ليست مستعدة للخسارة من أجل عيون العرب.


التاريخ يعيد نفسه لدى العرب، نفس العدوان كأن طائرات «المستير» الفرنسية التي قصفت عاصمة العروبة العام 56 هي نفسها تعود بعد هذا الزمن تقصف عاصمة أخرى للعروبة في ظل صمت عربي مطبق، ومن خرج عن الصمت كان أسوأ من الذين صمتوا لكن التاريخ لا ينبني على ردات الفعل ومزاج الهواة لهذا لم تحدث الضربة أي تغيير في واقع موازين القوى في سورية وهذه بشرى سيئة للذين هللوا لضرب دمشق ولا الذين استنجدوا أن تضرب أميركا سورية.! 

Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد