لأن المواقف السياسية الرسمية بين الدول والحكام عادة ما تكون نتيجة عقد الصفقات بينهم، والتي تسمى بالصفقات السياسية، فإنه إزاء كل محطة من المحطات السياسية ذات الطابع الإقليمي أو حتى الدولي، يقوم كل طرف بتفقد ما لديه من أوراق أو عوامل قوة سياسية، حتى ينجح في عقد صفقة سياسية ناجحة.


ولعل العالم الذي دخل في حقبة العصر الأميركي منذ نحو ثلاثة عقود، بات الآن، ومنذ أكثر من عام، ليس فقط في مواجهة «البراغماتية» السياسية للولايات المتحدة وحسب، بل وفي مواجهة ما يمكن وصفه بالسمسرة السياسية لواحد من أكثر رؤسائها صفاقة، لدرجة أنه حين فكر أو سعى أو رغب في أن يعد خطة لحل واحد من أعقد وأصعب الملفات السياسية في العالم، وهو ملف الصراع الرئيس في الشرق الأوسط، أطلق عليه مصطلح « صفقة القرن » ليؤكد أن جوهر هذه الخطة، ليس له علاقة بالمبادئ الإنسانية أو بالقيم الحضارية، بقدر ما له علاقة بقيم وأخلاق «البزنس» السياسي.


حسناً إذاً، حين يتعامل الطرف الفلسطيني مع إسرائيل وأميركا، وحتى مع بعض الأشقاء العرب، فإنه لا بد له بل ويتوجب عليه أن يحيط بعقلياتهم السياسية، فالاستمرار بمحاولة إيقاظ الضمير الميت لدى هؤلاء، لن يكون إلا فعلاً عبثياً بلا طائل ولا جدوى، لذا فإن طريق استعادة الحقوق الفلسطينية المستلبة، دونها كفاح لا بد من أن يضع العدو في دائرة الاختيار بين السيئ والأسوأ، وحتى يقبل حل الدولتين، فلا بد من أن يكون احتلاله أولاً خاسراً، بكل الجوانب والنواحي، بل وأن يكون ظاهراً للعيان بأن أفقه مغلق، ثم أن يكون بديله أسوأ على إسرائيل.


ولدى القيادة الفلسطينية امتياز لا يملكه أحد من الحكام أو الأنظمة ولا حتى المسماة ديمقراطية، ونقصد به الإسناد الشعبي، فحيثما ظهرت القيادة الفلسطينية كقيادة حركة تحرر، وحيثما أظهرت روح المقاومة، تجد الشعب بمثابة رافعة مركزية للسلطة، وفي الحقيقة لن يحرص أحد على بقاء السلطة تحررية الطابع، أو على تطورها لمشروع دولة، أكثر من الشعب الفلسطيني، لكن ذلك يتطلب أن يطغى على أدائها الطابع المقاوم أكثر من الطابع الوظيفي أو الأمني.


ولنا في تجربة الراحل العظيم ياسر عرفات أسوة حسنة، فحيث كان يتمتع بالإسناد الشعبي، كان أكثر جرأة وقدرة على المواجهة، ورغم أن الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون كان يتمتع بقبول لدى الجانب الفلسطيني، وحتى الإسرائيلي اليساري في الحكم في ذلك الوقت، حيث بدأ عهده راعياً لاتفاق إعلان المبادئ، وحاول أن ينهي عهده باتفاق نهائي بين الجانبين، ورغم أن أيهود باراك جلس على مقعد الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، بعد أن كان تعهد بالذهاب مباشرة لملفات الحل النهائي، إلا أن قوة الإسناد الشعبي، سهّلت على القائد العظيم عرفات الرد بــ»لا» عريضة وواضحة، رغم أنه  كان يعرف ما كان يمكن أن تجره هذه الــ»لا» من مواجهة، حدثت بالفعل عام 2000، لكن الشعب استقبله في غزة بالورود، وكما لو كان صلاح الدين، وانطلق يقاتل الإسرائيليين في الميدان، بوحدة مقاومة وعبر الانتفاضة الثانية التي جعلت كل الكتائب المسلحة من « حماس » و»فتح» وكل الفصائل تقاتل معاً في ميدان المواجهة.


إن صلابة الموقف السياسي الرسمي الفلسطيني، في حال تلازمت مع إسناد شعبي ميداني فإنها تحقق معجزات لا يدركها عرّابو البزنس السياسي، وها هو مفترق الطرق الذاهب ليوم الخامس عشر من أيار القادم الذي أراده الرئيس الأميركي ليكون موعداً استفزازياً بنقل سفارته إلى القدس المحتلة، يحرك الشارع الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، الذي ظن تجار السياسة الإقليمية بأن الحصار قد أنهكه وأن الانقسام قد بعث في نفسه اليأس والإحباط، ها هو يجترح المعجزة، ويخرج بحشوده عبر مسيرات وحراك شعبي سلمي، كما أرادت القيادة الرسمية، حيث إن ذلك يساعدها في التحرك الدولي، وبما أوقع العدو المتعجرف في المحظور، ونقصد به، إطلاق العنان لشهوته بالقتل.


لم يعد بمقدور البيت الأبيض أن يجرؤ على طرح «صفعة العصر»، كذلك فإن بعض عواصم الجوار بدأت تتحرك باتجاه رام الله تسعى من أجل وقف مسيرة العودة ، التي ما زالت في بداية مشوارها، فيما تنعقد القمة العربية التي يراد لها أن تكون مناسبة لفرد عباءة سعودية/ابن سلمان، على القرار العربي الرسمي، على إيقاع مسيرة العودة المباركة.


وقبل انعقاد القمة، ها هي المحكمة الجنائية الدولية تبدأ التحقيق في جريمة الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي على الحدود مع غزة قبل عشرة أيام، ما يعني أن الجانب الفلسطيني قد تحول من موقع الدفاع منذ إعلان ترامب مطلع كانون الأول الماضي، إلى حالة الهجوم، التي ستفرض التراجع على الثنائي العدو، الإسرائيلي/الأميركي.


في الحقيقة، فإنه ما زال في الجعبة الفلسطينية الشعبية والرسمية الكثير من أدوات الكفاح والصد ومن ثم الهجوم، فهناك إنهاء فعلي ونهائي للانقسام، وهناك تفعيل مؤسسات الكفاح الجامعة، مثل المجلس الوطني، ولنا أن نتخيل ماذا يمكنه أن يفعل، فرض السلطة كاملة على قطاع غزة، ومشاركة لـ»حماس» و»الجهاد» في المجلس الوطني، ومن ثم تشكيل لجان مقاومة شعبية في كل حي ومخيم وقرية وبلدة في كل إنحاء الوطن الفلسطيني المحتل، من رفح وحتى جنين، مروراً بالقدس والخليل و بيت لحم .


المهم ألا نقف في منتصف الطريق، فقد تبين للجميع أن انتزاع الحقوق الوطنية من العدو الإسرائيلي لم يقترب بعد، وأن إسرائيل جعلت من اتفاق أوسلو استراحة محارب ليس إلا، ولأن فصلاً من الصراع ما زال أمامنا، فإن كل أدوات الكفاح السياسية والشعبية بحاجة إلي تفعيل وإمضاء وتطوير، ويجب ألا تتوقف الأمور عند حدود مؤسسات «م.ت.ف»، بل وأن تطال السلطة نفسها والفصائل كلها، فقد ساهم عقدان من الهدنة والاكتفاء بالصراع السياسي بيننا وبين إسرائيل، في تراخي مفاصل الجسد الوطني، لذا لا بد من صياغة الأداء على أساس جامع للكل الوطني، وعلى أساس من التكامل.


Rajab22@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد