حين يرى الناس رجلا أنانيا، وقد أنفض الأصدقاء من حوله، يطلقون عليه المثل الذي يقول إن «فلان ملوش صاحب»، ومع مرور الوقت صار يطلق المثل على من لا أمان له، على من كان ليس محل ثقة، ولعل هذا المثل ينطبق تماما، على الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، فهو أولا وأخيرا رئيس أميركا، وأميركا هي التي ابتدعت الثقافة البراغماتية في السياسية وفي مجمل الحياة، أي ثقافة المصلحة الذاتية التي تبرر كل شيء، وكل شيء هنا، تعني الأخلاق والالتزام، بما في ذلك تخلي الأخ عن أخيه، والصديق عن صديقه، في سبيل تحقيق مصلحته الشخصية الذاتية. 


هذا الانحطاط الأخلاقي، هو الذي يفسر هذا التطابق بين إدارة ترامب وحكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، لكن هذا أيضا ما يمكن القول إزاءه، إنه لن يدوم، فحين يجد ترامب بأن له مصلحة في مكان آخر، فإنه لن يتردد لحظة، لا في بيع نتنياهو وحسب، بل وفي بيع إسرائيل كلها.


لم يسجل التاريخ الحديث رئيسا أميركيا ظهر بهذا المظهر الصفيق، كما لو كان سمسارا سياسيا، فهو منذ أول جولة خارجية له، تقدم نحو المملكة العربية السعودية، باتجاه كيس المال، وهو في استقباله لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عاد ليطلب المال، كما لو كان مستجديا، وكما لو كانت الولايات المتحدة دولة أفريقية فقيرة، وكان صريحا تماما، حين قال إنه سينسحب من سورية، وطلب من السعودية أن تغطي مصاريف انسحابه!


هذا لأنه رأى بأن مشاركته في الحرب في سورية، إنما هي خدمة يؤديها للغير، لذا على هذا الغير أن يدفع له مقابل الخدمة، كما لو كانت قواته في سورية قوات مرتزقة عسكرية، والمهم أنه فعلا أعلن قرار الانسحاب من سورية، أو بمعنى اصح الخروج منها، وبرر هذا بالقول، إن «داعش» يهدد أوروبا ودول المنطقة، وبشكل غير مباشر إسرائيل، ولا يهدد أميركا، وبالتالي فإنه يمكن أن يساعد الآخرين بالدعم اللوجستي، لكن لا يمكن للجنود الأميركيين الدفع بحياتهم من أجل الدفاع عن مصالح غيرهم. 


إن خروج أو انسحاب القوات الأميركية من سورية، لا يعزز مكانة روسيا فيها وفي المنطقة وحسب، بل كذلك ي فتح الطريق للقوات التركية للتوغل عميقا في الشمال السوري، وصولا إلى منبج وربما أبعد من ذلك، فوجود القوات الأميركية كان يخشى منه أن يؤدي معه التوغل العميق للقوات التركية إلى اصطدام مع القوات الأميركية، وهذا يعني بأن أول ضحايا هذا الخروج الأميركي من سورية هو حليفها الكردي، الذي سيكون أول من يدرك بأن «ترامب ملوش صاحب»، وهكذا سيتسابق اللاعبون الإقليميون مع روسيا على تقاسم الكعكة السورية. 


اللاعب التالي الذي سيشعر بأن الخروج الأميركي قد خذله هو العديد من جماعات المعارضة السورية، الذين سيؤكد لهم هذا الانسحاب الميداني بأن واشنطن في طريقها للانسحاب السياسي أيضا من الملف، وهذا يعني، بأن إعادة سيطرة النظام على ما يتركه له اللاعبون الإقليميون، قد باتت مسألة وقت فقط، وهكذا فإن ملف وحدة وإصلاح سورية قد تم إغلاقه، فيما كانت كل الأطراف السورية بالنتيجة هي خاسرة، لأنه حتى النظام سيواجه بعد ذلك مناطق النفوذ الخارجي في بلاده، وإن كان سيعتبر الوجود الروسي والإيراني، قد كان بناء على طلبه، فإنه لن يكون بمقدوره فتح جبهة حرب مع الوجود التركي أو حتى الإسرائيلي. 


أما العرب فعليهم أن يدركوا منذ الآن، بأنه يمكن «شراء ترامب» على أي حال، وأنه مقابل الدفع له، يجب أن ينتزعوا منه مواقف وقرارات سياسية واضحة، وأنه يجب التعامل معه، على أنه سمسار سياسي، ليس هنالك من شيء مجاني بالنسبة له، وهذا يجب أن ينطبق عليه تجاه الآخرين أيضا، فكما انه لا يقوم بشيء للآخرين مجانا، فإن الآخرين يجب ألا يقدموا له شيئا مجانا أيضا، وأن لغة التهديد التي كانت تستخدمها في السابق الولايات المتحدة، قد تغيرت، فالدولة التي على رأسها ترامب، لم تعد دولة ذات مهابة، بل هي دولة صفيقة بكل معنى الكلمة، ما دامت أهم مؤسسة فيها وهي البيت الأبيض، يمكن شراؤها بالمال. 


بقي أن نقول، إن سياسة الانسحاب التي بدأتها الولايات المتحدة، ليس من المتوقع أن تكون الخطوة الوحيدة، بل هي تؤكد ما كنا نتوقعه منذ فترة طويلة، بأن الولايات المتحدة تنسحب من المنطقة ومن معظم العالم، لأنها شيئا فشيئا تدرك بأن عالم ما بعد الحرب الباردة بات مختلفا، وأن هذا الانسحاب يمكن جدا أن ينسحب بدوره على الملف الفلسطيني/ الإسرائيلي، وهنا يمكننا القول إن كل ما أحاط بصفقة العصر يؤكد بأن ترامب كان ينوي طرح الخطة، ومجرد رفضها، أو عدم قبولها سيكون ذلك حجة له لنفض يده من مجمل الملف، ولن يحاول أن يصرف الوقت والجهد فيها، كما فعل أسلافه خاصة بيل كلينتون وباراك أوباما، وأن جل ما فعله تجاه إسرائيل هو نقل السفارة والسلام. 


أي انه يظل على الطرف الآخر من ملعب الصراع، ولن يطول الوقت حتى تدرك إسرائيل بأن واشنطن ستكتفي بدعمها سياسيا، وفي حين تجد أن دعمها سيغلق صناديق الصراف الآلي الخليجي مثلا تجاهها، فسوق تعيد حساباتها. لذا فإن هذا يعتبر نصرا للشعب الفلسطيني الذي يمكنه بكفاحه الشعبي أن يعيد إسرائيل إلى العام 1987، وأن يعيد أميركا إلى ما وراء البحار. 


السناتور ليندسي غراهام علّق قائلا إن دمشق ستسلم فعليا إلى إيران ــــ قال دمشق أي النظام السوري ولم يقل سورية ـــــ وأضاف، إن القلق الأكبر سيكون للسعودية وإسرائيل، وإن انسحاب أميركا يترك المنطقة بيد بوتين، لذا يجب علينا أن نذهب لموسكو لربما تكون الراعي الجديد للمفاوضات. أما ترامب فقد بلع عنترياته تجاه كوريا، ولن يحارب إيران، وها هو يترجم شعاره بإعادة عظمة أميركا من خلال القوة الاقتصادية وليس العسكرية.


Rajab22@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد