مر وقت طويل منذ إعلان ترامب المشؤوم الاعتراف ب القدس عاصمة لإسرائيل وعن نيته نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، أثير خلاله الكثير من النقاش وتصدر الرفض الفلسطيني الرسمي بصلابته المشهد في مواجهة عنجهية ربما تشكل استمراراً لكل عنجهيات الاستعمار منذ وطئت أرض أول غريب أرضاً ليست له. 


وربما أن الجانب السياسي من كل النقاش هو الذي ظل طاغياً على ما سواه حيث إن هذا الاعتراف وتلك النية يشكلان انطلاق موقف سياسي جديد لإدارة البيت الأبيض، موقف ينحاز بشكل كامل إلى الموقف السياسي الإسرائيلي ويقر بمطالب إسرائيل المزعومة وحقوقها المزيفة، وهو من شأنه أن يقود بفعل قوة واشنطن وتأثيرها في السياسة الدولية إلى انحرافات في مواقف بعض الدول أو تشجيعاً لتلك الدول التي ستغريها تل أبيب بفعل المثل. 


لكن الحقيقة أن خطورة ما جرى، إلى جانب كل ذلك، تكمن في تبني ترامب وإدارته للرواية التاريخية الصهيونية عن حقوقها المزعومة في فلسطين. 


وبكلمة أخرى لقد شكل إعلان ترامب اعتداء صارخاً على رواية الشعب الفلسطيني الحقيقية عن أرضه، انتهاكاً لحكايته عن فجر الوجود الفلسطيني حين أشرقت الشمس لأول مرة على شواطئ البحر المتوسط وعلى تلال كنعان. 


لم يكن الأمر مجرد رغبة سياسية، وموقف سياسي جديد يتبناه الرجل في البيت الأبيض، كما لم يكن مجرد نزوة عابرة أشرقت عليها الشمس فأفاق صاحبها عليها. 


ثمة الكثير من الدلالات التي يجب التوقف عندها حين يتم التفكير في الأمر. فالاعتراف على ما فيه من بعد سياسي فإنه ينطوي على الكثير من المدلولات الأخرى، التي ربما أهمها ما يجب أن يقال عن تزييف الوعي والتاريخ والآثار والمرويات كما المقدسات الذي تقوم به الحركة الصهيونية وتساعدها في ذلك القوى المسيحية المتصهينة التي تريد تعجيل الخلاص عبر تعجيل قيام دولة إسرائيل الذي بدوره يعجل ظهور المسيح الذي يطهر العالم من الذنوب. 


لقد نجحت الحركة الصهيونية في تزييف العقل الأوروبي مستغلة بالطبع الصراع الحضاري الثقافي بين أوروبا والعرب منذ رحلات الفينيقيين إلى شواطئ الإغريق، في تمرير كل ما تريد من معلومات مزيفة ومضللة حول تاريخ المنطقة خاصة أرض كنعان في سبيل تعزيز مقولة الحق اليهودي في أرض فلسطين. الصراع بين أوروبا (المشتقة أساساً من العربية) وبين نقيضها الثقافي أو آخرها الهوياتي السواحل العربية وجد مادة جديدة له في تبني أوروبا لرواية الصهيونية عن فلسطين المختلقة.


النتيجة أن فلسطين وأهلها وقعوا ضحية أولى لهذا التزييف وذلك الصراع الأوسع. بل ربما كانت فلسطين ساحة معركته الأبرز. 


وبالنظر إلى المشاريع الأوروبية لتأسيس وطن لليهود في فلسطين فإن بذور مثل تلك الأفكار بعد تلاشي حلم الممالك المسيحية الصليبية في القرن الثاني عشر وتسليم أوروبا بعد مقدرتها على فعل ذلك مع هزيمة آخر الحملات الصليبية، بدأ مع الحرب الأهلية البريطانية في القرن السابع عشر ولم يتوقف حتى وعد بلفور المشؤوم الذي أسس لحضور المستعمرين من أوروبا إلى فلسطين وسرقة البلاد. 


ذكرى النكبة المؤلمة التي نتذكرها في عامها السبعين كأنها حدثت أمس، لأننا ببساطة مازلنا لاجئين. 


وعليه لم يتم تصدير الأزمات الأوروبية إلى ساحة خارجية تمثلت في فلسطين، ولم يعد الأمر مجرد مشروع استعماري آخر بل كان لابد من إعادة تكييف التاريخ  ومسروداته من أجل تثبيت عملية سرقة البلاد.


تأملوا مثلاً كيف تقوم القواميس الإنجليزية بترجمة كلمة "فلسطين" حين تكتب philistine وليست Palestine فالكلمة حين تشير إلى المحتوي التاريخي للشعب الفلسطيني فإنها تعني البربري والهمجي وكل ما يمكن أن يخطر على البال من كلمات متوحشة، أما حين تشير إليها بالمعنى السياسي فهي دلالة جغرافية على أرض التوراة. 


بالطبع لا يمكن أن تكون هذه صدفة، ولا يمكن أن يكون من أدخل مثل هذه الكلمة في القاموس الإنجليزي الذي لم يكتب إلا في القرن السابع عشر على يد الشاعر "جونسون" بريطانياً بحتاً، وأن مثل هذه الكلمة يتداولها الشعب الإنجليزي منذ تكون لغته بعد وصول قبائل الإنجلو والساكسون، بل هي ليست إلا من تلك الحيل والخدع التي شكلها التأثير اليهودي في الثقافة الأوروبية تدريجياً وصولاً إلى اللحظة المنشودة التي يتم خلالها جعل وجود إسرائيل على حساب سكان فلسطين الحقيقيين أمراً محتماً بل ومطلباً إلهياً. 


ثمة الكثير الذي يمكن أن يقال في هذا المضمار يتجاوز حدود المنطق لكنه يكشف كيف يتم تجاوز المنطق من أجل إعادة إنتاج السياسات المطلوبة التي تتوافق مع المخطط. 


إن الكثير من المؤلفات حتى الإسرائيلية كشفت عن عمليات التزييف تلك وعن عمليات اختلاق الواقع المتخيل من أجل الوصول إلى الحقيقية غير الموجودة أصلاً، وربما من آخرها كانت مؤلفات شلومو ساند خاصة "اختراع الشعب اليهودي" و"اختراع أرض إسرائيل"، وقبل ذلك الكثير الكثير من المؤلفات الأخرى.


بعبارة أخرى فإن خطورة ما قام به ترامب في أنه اعتداء على الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني حول أرضه وتاريخه، وتسليمه بكل مكونات الاختلاق الزائف الذي قامت به الصهيونية للوقائع وللتاريخ. 


وربما بتأمل كل السابق فهو ليس إلا استكمال لمواقف متدرجة تبناها الوعي الغربي بخصوص فلسطين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد