2014/11/23
281-TRIAL-
السياسة لا تعرف الفراغ وخاصة حين تكون أطرافها في منتصف لعبة صراع الإرادات، كان لا بد وأن تعبر عن نفسها في مكان آخر وبلغة أخرى، وهكذا كان في القدس ، أو ليست الحرب مجرد استمرار للسياسة؟ فما جرى في المدينة كان يلخص المسار الذي انتهى على طاولتي الحرب والسلام أو يكمل كل منهما حين توقفت المفاوضات في نيسان الماضي في الضفة أو حين توقف السلاح في آب في غزة .
وكان لا بد من استكمال الجولات بوسائل أخرى بين رجلين أدركا استحالة تطبيق حكم التاريخ في صراع الكتلتين المتنازعتين على هذه الأرض حيث فشلت أي منهما بإنهاء وجود الأخرى بالقوة المسلحة حتى اللحظة، ليخلص الحكم بضرورة تقسيم الأرض، هكذا كان منذ ربع قرن ولا زال الصراع يخفت حينا ويستعر حينا آخر دون أن يسجل أي منهما انتصاره بالضربة القاضية، ولا حل باتفاق يقضي بالتقسيم والتعايش فقد فشلت المفاوضات فأخذ الصراع شكلا جديدا على الحلبة الدولية فيما يشبه لعبة العلاقات العامة أو الصراع الدبلوماسي والذي بدأ يحرز فيه الفلسطينيون نقاطاً لصالحهم.
نتنياهو المتذاكي كما وصفه الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس والخارج لتوه من حرب غزة كان قد بدأ يتعرض لانتقادات من قبل قوى اليمين سواء في حزبه ممثلة بالتيار القوى الذي يمثله داني دانون رئيس اللجنة المركزية لحزب الليكود ونائب وزير الدفاع المقال، أو من جهة الائتلاف رئيس حزب الاتحاد الوطني ووزير الاقتصاد نفتالي بينيت وتقف خلفهما مجموعات من المتطرفين قد بدأت ترى بأن نتنياهو لم يحقق أهداف الحرب على غزة وتوقف في منتصف الطريق، واصفة إياه بالجبان، فقد بدأ يشعر بهبوط شعبيته في أو أوساط اليمين لتكون القدس رشوة يقدمها للمتطرفين أي يعطيهم "جبل الهيكل" وما تبعها من إجراءات استفزازية ومحاولة التقسيم الزماني للأقصى في محاولة لاستعادة قوته في هذه الأوساط. كان نتنياهو يعتقد أن الرشوة ستمر بلا اعتراض، فالوضع الفلسطيني في غاية الهشاشة بسبب الانقسام ومؤشرات هذا الضعف بادية للعيان منذ سنوات في القدس، وليس هناك سوى تظاهرات صوتية في بعض المدن تقودها الفصائل تنتهي بالصراخ، والوضع العربي غارق في الدم، وبالرغم من تحذيرات أجهزته بأن الأمور ستنفلت إلا أنه رأى أن قليلا من التصعيد في المدينة المقدسة يمكن استغلاله...ويمكن احتواؤه.
وعلى الجانب الآخر كان الرئيس الفلسطيني يراقب ما تتخذه الحكومة الإسرائيلية من إجراءات في القدس والهجوم المتكرر والمتزايد من قبل اليمين الذي يتلقف الرشوة، ولكن الرجل لا حول له ولا قوة، فالعرب غارقون في أزماتهم والمجتمع الدولي تركه وحيدا والولايات المتحدة أضعف من أن تكبح جنون حكومة نتنياهو، فليكن التصعيد إذن، وهكذا كان لافتاً في خطاب له في الثامن عشر من الشهر الماضي أن يطالب أبناء فتح بالدفاع عن القدس بأي طريقة ممكنة وهو الخطاب الذي اعتبرته إسرائيل الإذن بالهجوم وبدء العمليات.
وهكذا إذن، أصبح للرئيس الفلسطيني ولرئيس الوزراء الإسرائيلي نفس الرغبة بالتصعيد، لكن كليهما كان يريد تصعيدا هادئا وتحت السيطرة لا يذهب أبعد مما يجب، هي لعبة الإرادة مرة أخرى، فقد كانت مصلحة نتنياهو بتصعيد يمكن أن تعزز نتائجه مواقف نتنياهو في إطار لعبة العلاقات العامة الدولية باعتبار أن الرئيس الفلسطيني هو من طلب الدفاع " بأية طريقة " وبالتالي اتهام الفلسطينيين بأنهم يشعلون الحريق في المنطقة، وهم الداعون للعنف وتخريب جهود السلام وكأنها موجودة، هكذا فعلت إسرائيل، وكان العالم على هذه الدرجة من السذاجة وفقط الأذكياء هم ليبرمان ورئيس حكومته ومعهم وزير الاقتصاد، وكأن التاريخ القريب لم يشهد على تفجيرهم للمفاوضات.
أما أبو مازن فاعتبر ان في بعض التصعيد ما يمكن أن يرسل الرسالة التي يريدها لكل الأطراف وأولها إسرائيل بأنه حين تتوقف المفاوضات فإن العنف هو البديل، وثانيا فهي دعوة للمجتمع الدولي وللولايات المتحدة لإطفاء حريق سببه توقف محاولات التسوية واستسلام العالم لوقف المفاوضات منذ أن أغلقها نتنياهو في وجه وزير الخارجية الأميركية، وبدا أن قدرا من التجاهل الدولي للملف الفلسطيني غير المقبول والذهاب نحو ملفات أخرى مثل الإيراني والتحالف الدولي ضد داعش وكوباني، أي ترك إسرائيل تقسم كما تريد في القدس دون اعتراض.
ولكن الرجلين أيضا أرادا أن يكون هذا التصعيد تحت السيطرة أي تصعيدا هادئا ولا يريد أي منهما أن تذهب الأمور أبعد مما يجب، فبالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، وهذا ما بدا بعد عملية كنيس "كهيلات يعقوب "أن قدرته على تحمل عمليات بهذا الوزن ضعيفة وقد تنقلب لتعزز صورة الرجل الضعيف مرة أخرى والعاجز عن حماية الإسرائيليين وخصوصا في القدس، وهي الصورة التي يمكن أن تطيح بمستقبله خاصة بعد أن بدأت الساحة الإسرائيلية تدخل أجواء احتمالية تقديم الانتخابات منتصف العام القادم، فإن تصاعدت العمليات فإن هذا آخر ما كان يتمناه، وخصوصا أن هناك كتلة يمينية قوية تتربص له وتتهمه بالإخفاق في حماية مصالح إسرائيل الأمنية.
وعلى الجانب الآخر فإن الرئيس الفلسطيني لا يريد للأمور أن تذهب أبعد مما يجب، بل يريد تصعيدا هادئا، تهدئة تصحب هذا التصعيد، ولا يريد للأمور أن تخرج عن السيطرة والتي قد تعيد تفجير الباصات أو عمليات مشابهة قد تعزز الموقف الإسرائيلي في لعبة العلاقات العامة، حين تعود صورة الضحية التي تجيد إسرائيل تسويقها جيدا بعد أن تمكن الفلسطينيون من ارتدائها بعد حروب إسرائيل على غزة وارتكابها جرائم حرب وقتل أطفال ورفض النداءات الدولية في الموضوع الاستيطاني، أو على الأقل قد يمتد الأمر ليشعل انتفاضة تعيق جهوده الدولية أو تعيد خلط الأوراق من جديد وتجعل من العودة للمفاوضات أمرا مستحيلا إذا ما قررت الولايات المتحدة وقدمت ضمانات جديدة وسط جولة من العنف وقد تمتد لسنوات.
إذا كان للرجلين مصلحة في التصعيد ومصلحة في التهدئة...هي جولة من جولات المفاوضات العنيفة اختيرت القدس لتكون مسرحها وكان أهلها على أهبة الاستعداد للدفاع وللهجوم حين شعروا أن مسؤولية الدفاع ملقاة على عاتقهم وحدهم، حين تخلى عنهم الأصدقاء وتقدم الأعداء، ولكن الحسابات لدى الطرفين اللذين توافقا دون اتفاق على مستوى ما كان يجب أن يكون وكيف يهدأ يبدو أنه سيدفعهما ودون اتفاق أيضا الى التراجع وتخفيف حدة اللهب، فقد أدرك الجانبان خطورة الاندفاع أكثر، وتنذر توصيات أجهزة الأمن والشرطة والجيش بالتهدئة، ويبدو أن نتنياهو آخذ بالتراجع، فقد حركت جولة القدس بعض الهدوء في السياسة وخصوصا في إسرائيل، فقد بدأت الأصوات تتعالى عن غياب عملية تسوية وعن الثمن، وهذا ما كان يريده الفلسطينيون..!
Atallah.akram@hotmail.com 259
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية