الإنسانُ كائنٌ غريب ومخلوقٌ عجيب، وإحدى وجوه تصرفاته الغريبة وأفعاله العجيبة أنه أحياناً يتقمّص دور عدوه ويتماهى مع صفات خصمه ويلبس عباءة جلاده، وتأكيداً على ذلك أفرد العلاّمة عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته فصلاً بعنوان « في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده «، وفي هذا الإطار ناقش الدكتور مصطفى حجازي في كتابه (سيكولوجية الإنسان المقهور) كيفية تماهي المقهور بأحكام المتسلّط الذي يستغل الفرصة ليتسلّط على من هم أضعف منه.

ولم تغفل مدرسة التحليل النفسي عن ذلك المضمون فأطلقت عليه مفهوم (التوّحد بالمعتدي) باعتباره آلية نفسية لاشعورية دفاعية يقوم بها الشخص المغلوب بتقمص صفات الشخص الغالب أو بعضها أو إحداها فيتم استدماجها ثم إعادة إسقاطها على شخص آخر، وهذا يُصيب الأفراد كما يُصيب الجماعات، فقد تُمارس الجماعة الحاكمة الأقوى القهر على الجماعة المحكومة الأضعف بعد أن تشرّبت صفة القهر المُمارس عليها من عدوها الغالب لتُعيد إسقاطه على جماعة أُخرى عندما يُتاح لها الفرصة.

وقد شهد التاريخ نماذج عديدة لهذه الظاهرة النفسية من أبرزها ما قام به اليهود الذين نجوا من الوحش النازي تجاه الشعب الفلسطيني في حرب النكبة وما بعدها، فقد فسرّه بعض علماء مدرسة التحليل النفسي بأنه توّحد بالمعتدي ومن أبرزهم العالم المصري مصطفى زيور الذي ربط بين القسوة التي تعرّض لها اليهود في أوروبا على يد النازيين وبين القسوة التي مارسوها تجاه الفلسطينيين فيما بعد كنوع من استدماج صفات الحركة النازية في الحركة الصهيونية، ونحن لسنا بدعاً من الشعوب ولا نوعاً جديداً من الجماعات فقد تنتقل إلينا هذه الظاهرة لاشعورياً لنمارس التسلّط والقهر فيما بيننا كنوع من التماهي مع صفة التسلط والقهر المُمارس علينا من عدونا.

ولعل استمرار السلطة في فرض العقوبات على الشعب الفلسطيني في غزة يدخل في هذا الباب؛ وإلا كيف يُمكن تفسير الإصرار على مواصلة فرضها رغم العلم باستفحال خطرها على المجتمع الغزي، وكل هذا العناد في رفض النداءات الداعية لرفعها عن جماهير البؤساء والتعساء في غزة، رغم مضي شهور على المصالحة وتسليم الوزارات والمعابر لحكومة التوافق بحجة عدم اكتمال التمكين اللعين الذي أصبح كقميص عثمان يٌرفع في وجه الصامدين المرابطين في غزة ليذكرهم بأن سيد السلطة المقهور حتى النخاع لم يرضَ عنهم بعد، وأن أولي الأمر والطول الراسخين في السلطة من السادة العبيد لم يصلوا إلى درجة النشوة بعد من التلذذ بعذابات الغلابة الذين فتك بهم ثلاثي الاحتلال والحصار والانقسام وأنهكتهم الحروب والعقوبات ونال منهم العجز والفشل والحزبية والفساد واستوطنت دورهم البطالة والفقر ورافقهم في نهارهم وليلهم البؤس واليأس.

وبعد كل ذلك ليس من المعقول أو المقبول أن تُطالب بعض المنظمات الدولية برفع الحصار والعقوبات عن قطاع غزة، وترتفع الأصوات في الساحة العالمية كمبعوث الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط ورئيس بعثة الصليب الأحمر الدولي في غزة مطالبة برفع الحصار والعقوبات ... ولا نسمع أي صوت فلسطيني خارج قطاع غزة يُطالب السلطة برفع العقوبات عن غزة، وليس من المنطقي أن يكون رفع العقوبات مطلباً دولياً ولا يتحوّل إلى مطلب وطني فلسطيني يضغط على فريق السلطة ليتحمل مسؤوليته التي أخذتها المنظمة على عاتقها بموجب اتفاقية أوسلو بأن تتحمل عبء إدارة السكان في الضفة والقطاع بديلاً عن الإدارة المدنية للحكم العسكري الإسرائيلي.. أليست غزة هي التي قال فيها محمود درويش شاعر فلسطين الأول " ليست غزة أجمل المدن... وليست غزة أغنى المدن، وليست أرقى المدن، وليست أكبر المدن... لكنها تعادل تاريخ أمة، لأنها أشد قبحاً في عيون الأعداء... لأنها أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته... لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب “.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد