تبدو زيارة متحف ياسر عرفات قرب الضريح جزءاً مهماً يجب أن يقوم به المرء من أجل استكمال رحلة البحث عن هويته الذاتية والعامة، حيث يتجلى في المتحف التاريخ الوطني والسرديات القومية بأبعادها المختلفة. 


والفلسطيني يبدو مذهولاً أمام الحكاية العرفاتية بتفاصيلها وبمجملها، وعليه حين يصعد ممرات المتحف المصممة بطريقة رائعة كأن المرء يسير في ممر التاريخ، يجد حكايته تروى له عبر المعروضات على جوانب الممر الصاعد نحو عالم عرفات، أو من خلال الاستماع إلى التسجيل السردي للحكاية في مراحل مختلفة عبر جهاز الاستماع الذي يُعطى له من قبل موظفي المتحف. 


رحلة عبر الذات، عبر الحكاية العامة التي تنفلت من عقال الحكايات الشخصية، والمرء حين يسير في المتحف يستدل على الكثير من التفاصيل التي تبدو طريقة عرضها مغرية وجذابة وغير متكلفة، بحيث يقف التاريخ على قدمين أمامه، وبحيث يصبح الاشتباك مع الأحداث التي مرت على الشعب الفلسطيني جزءاً من لحظة العرض عبر الصورة وعبر المادة التاريخية والموجودات والمقتنيات والتصاميم الداخلية التي تدخلك في المكان المقصود، مثل تلك الزوايا المختلفة التي تتم إعادة تجسيد صورة المكان من خلالها، منها مثلاً الزاوية التي يتم تكوين نوافذ بيت جد ياسر عرفات في القدس ، النوافذ التي ترى منها المسجد الأقصى وقبة الصخرة حيث كان يقف الطفل الذي سينذر عزمه بعد ذلك في سبيل استرداد المدينة المسلوبة. 


لحظة الاشتباك مع التاريخ ومع الأحداث تبدو مهمة في المتحف الذي تجد نفسك فيه، تجد حكايتك مندمغة مع الحكايات المختلفة التي يطمح المكان لإعادة سردها. 


كأن الصعود التدريجي ثم عبور الممر المعلق نحو المنطقة التي تحاصر فيها ياسر عرفات هو صعود يوازي مجازاً مرور عرفات إلى مصيره الذي اختاره، هو صعود نحو عليائه الخاص، عالمه الأثير الذي نذر نفسه له. 


ما إن تضع قدماً فوق الممر حتى تدرك أنك تسير في الممر الأبدي الذي سار عليه ياسر عرفات ووقع خطواته الدامغة على طريق الشهادة، ينتابك إحساس بأنك مثله تعبر الطريق، تقطع المسافة نحو الأبد نحو الخلود. 


الاختيار الطوعي الموازي للخيار الجماعي الذي قدم الشعب ذاته في سيله. بذلك تتماهى صورة البطل مع صورة الشعب، وتتداخل الحكاية الشخصية مع الحكاية الجماعية، وربما وحده عرفات القادر على تقديم هذا التماهي وهذا التطابق بأكمل صوره وأبهى حلله. 


هل لأنه ياسر عرفات؟ وهل يتم تعريف الشخص إلا بفعله وسيرته. فقط إذا كانت الإجابة كذلك عندها ندرك كيف كان عرفات صورة أخرى عن شعبه، بورتريه كامل الحضور في وعي كل الأفراد. 


لا يعود وقتها تجسيداً شمولياً فقط بل هو تجسيد منفرد لكل فرد. وعلى هذا الأساس يصح أن يكون في داخل كل فلسطيني ثمة عرفات، في كل فلسطيني هناك في مكان ما في قلبه يرقد عرفات. 


عرفات بما مثله من جينات وراثية للوطنية الفلسطينية، حتى خصوم عرفات في قلوبهم بعض منه. إنه ذلك البعض الذي يشكل وطنيتهم الحقيقية، جوهرها وأساسها، وهو البعض المشترك عند الجميع. 


في المتحف الكثير من الوثائق التي شكل النظر إليها شحنة عاطفية للمشاهد، فقط عليك أن تتخيل نفسك وأنت تنظر في مسودة خطاب ياسر عرفات أمام الجمعية العامة في العام 1974 (كان عمري وقتها عاماً) وعبارته الشهيرة هناك أمام زعماء العالم: جئتكم وغضن الزيتون في يدي والبندقية في اليد الأخرى. 


خط يد ياسر عرفات على الأوراق والكراسات، ويمكن لخيالك أن يشطح ويسافر عبر الزمن العرفاتي إلى تلك اللحظات المشحونة بالتوتر القلق والأمل والحلم حين كان عرفات ومساعدوه يخطون هذا الخطاب وهم يتخيلون الولد الفلسطيني يقف لأول مرة ليس يتيماً ولا مشرداً ولا حافياً ولا متسولاً، يقف بشجاعة المقاتل أمام الهيئة التي تآمرت عليه وتكالبت سيوفها من أجل تمزيق جسده، وأصدرت القرارات الجائرة التي ضاع وفقها وطنه. 


الولد الفلسطيني يخاطب العالم عن حقه. أي لحظة تلك، يمكن أن يختصرها مشهد الكراسات والقلم والنظارة السوداء التي كان يلبسها عرفات. ثم كأن عرفات ينهض من رقاده في حركة مسرحية ليقف داخل فاترينة العرض يلملم أوراقه ويعيد مسك القلم مثل من يتذكر عبارة فاتته أو جملة خطرت على باله، يعيد لبس نظارته محدقاً في الأفق البعيد، يحاول أن يقبض على الحلم المسحوق تحت عجلات النكبة ، يقف أمامك مردداً عباراته الأثيرة حول الوطن السليب الذي يجب استعادته، وعن الطريق المحفوفة بالمخاطر التي يجب سلكها وعن الشهداء بالملايين السائرين على الدرب. 


ثم عليك أن تجتهد وتقاوم لتتماسك وأنت تعبر منطقة الحصار. بداية في الطابق الأرضي حيث غرفة اجتماعات ياسر عرفات كما هي، بمسدسه الذي كان يضعه بجواره. 
هل تذكرون، عباراته المؤلمة وهو يضع المسدس وضوء المصباح الخافت يتراقص مثل روح سترحل، وهو يقول "شهيداً شهيداً"، من منا لم يبك وقتها. 


غرفة صغيرة كانت تدار منها شؤون أعظم وأعدل قضية في التاريخ. المطبخ الصغير وشؤون وتفاصيل تصيبك بحرقة وألم وأنت تنظر إليه، ثم كأن ما يشدك للطابق الثاني حيث مبيت عرفات وغرفة حصاره يدفعك للتريث وتأمل الأشياء جيداً حيث الغصة أكبر والألم أشد فوق. هناك غرفة حراسات عرفات، ومن هناك كان حارس الحكاية يطل من نوافذه على فلسطين وهي تقرؤه السلام لروح كل رفاق دربه الذين سبقوه. أما في الغرفة الصغيرة التي كان ينام فيها عرفات فلا بد أن تسح منك الدموع، الغرفة التي تغفو فيها أحلام الحرية وتستيقظ على أمل جديد. 


على ذات المخدة يستيقظ حلمنا الأزلي، الحلم الذي كان يراود عرفات وهو يغمض عينيه لساعات قبل أن يغمضهما للأبد.


في متحف ياسر عرفات أنت أنت.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد