مكافحة الفساد يحتاج الى خطة وبرنامج عمل تستند الى عزم لاجتثاث هذه الافة الخطيرة، والى تشريعات نافذه، وتدابير وسياسات فاعلة، وكذلك الى اليات للمساءلة والمكاشفة والمحاسبة.

ونظراً لمساس الفساد بحقوق الانسان المدنية والسياسية من خلال حرمانه من تولي الوظائف العامة بسبب المحسوبية والتمييز، أو وصول من لا يستحق الى مواقع وظيفية أو تمثيلية في الدولة بطرق فاسدة قائمة على الغش والتدليس والتزوير والمحاباة، ونظراً لمساس الفساد بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية من خلال انتهاك الحق في مستوى معيشي لائق، أو الحرمان من التعليم والتمتع بالصحة او السكن اللائق من خلال انظمة حكومية يتحكم في مفاصلها موظفون يسلكون طرقاُ فاسدة لتحقيق ثراء غير مشروع، نظراً لذلك كله وبسبب المساس المباشر للفساد بمنظومة حقوق الانسان، فإن رسم طريق تسهم في مكافحة هذ الجريمة، يستوجب ان تكون وفق نهج قائم على حقوق الانسان.

والنهج القائم على حقوق الانسان هو إطار مفاهيمي يسعى إلى تحليل الالتزامات والتفاوتات ومواطن القابلية للتضرر، وإلى علاج الممارسات التمييزية، والتوزيع غير العادل للقوة وهو ما يعوق تحقيق التقدم ويقوض حقوق الإنسان. وبموجب النهج القائم على حقوق الإنسان، تترسخ الخطط والسياسات والبرامج على نظام للحقوق وتناظر الالتزامات التي ينشئها القانون الدولي. ومن شأن ذلك أن يساعد على تعزيز الاستدامة، وعلى تمكين المواطنين أنفسهم، وهم أصحاب الحقوق، من المشاركة في رسم السياسات وعلى مساءلة من يتحملون المسؤوليات، وهم اصحاب الواجبات. وللنهج القائم على حقوق الإنسان مبادئ خمس تسعى هذه المقالة للاستناد عليها من اجل مناهضة الفساد، وهي الالزامية القانونية، والتمكين، والمشاركة، وعدم التمييز والمساءلة.

لقدد شدد القانون الدولي لحقوق الانسان على كرامة الإنسان، من خلال تمتعه بحقوقه الاساسية، من خلال الاعلان العالمي في مادته الاولى التي نصت على ان الناس جميعاً يولدون احراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً ويعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء، ونظراً لأن آثار الفساد تشكل مساساً بالكرامة المتأصلة بالإنسان الذي سيحرمه الفساد والمفسدين من حقوق التمتع بالفرص على قدم المساوة مع الاخرين، فإن ممارسة الفساد تعتبر انتهاكاً لمبادئ لإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وجريمة يجب استئصالها دون هوادة.

لقد بلغت ذروة يقظة العالم لمخاطر الفساد على حقوق الإنسان من خلال اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003 التي حثت الدول الاطراف على ان تعقد العزم كي تكشف وتمنع وتردع، على نحو انجع، كافة صور الكسب غير المشروع، والى سن تشريعات مكافحة الفساد، والى ارساء سياسات وبرامج فاعلة على طريق مكافحة الفساد عبر انشاء هيئات وطنية لمكافحة الفساد تتمتع بالاستقلالية المالية والادارية والمهنية، وتتمتع بالوصول للحصول على المعلومات ذات الصلة، وسلطات شبه قضائية للتحقيق في شبهات الفساد، وفي القدرة على الاحالة الى النيابة والقضاء اولئك المتورطين في جرائم الثراء غير المشروع.

ولقد قامت دولة فلسطين بموجب الانضمام لهذه الاتفاقية باتخاذ التدابير التشريعية والسياساتية لإعمال ما تضمنته الاتفاقية من خلال رزمة " تشريعات مكافحة الفساد" التي اشتملت على قانون الكسب غير المشروع في العام 2005، وفي العام 2010 عدّلته، وعدّلت تسميته بما يتلاءم مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، بحيث أصبح يسمى قانون مكافحة الفساد ( وانشأت بموجبة هيئة وطنية لمكافحة الفساد، تباشر اعمالها وتقدم تقريرها لرئيس الدولة) وقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لسنة 2015، ووضعت الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد للأعوام 2015-2018 بمحاورها الاربعة التي اشتملت على منع وقوع الفساد والوقاية منه، وإنفاذ القانون والملاحقة القضائية، ورفع مستوى الوعي والتثقيف والتدريب والمشاركة المجتمعية، والتعاون الدولي

ان مضامين الالزامية القانونية التي اشتملت على مكافحة الفساد وتجريمه ترتكز بشكل اساسي على ضرورة تمكين اصحاب الواجب من معرفة وفهم هذه الالتزامات وتعزيزها واحترامها والامتثال لها، والا سيكونون عرضة للمساءلة والمحاسبة.

ويستوجب التمكين لمكافحة الفساد ضمان تصميم التدخلات، وعمليات التنفيذ بطريقة تجعلهما يساهمان في عملية مكافحته من خلال تعزيز قدرات أصحاب الحقوق انفسهم ليمارسوا حقوقهم من خلال القدرة على تقديم البلاغات، والشكاوى وتقديم المعلومات، أو الحصول عليها، والوصول إلى العدالة، والحصول على التعويض والانصاف وجبر الضرر.

والتمكين يعني تعزيز مساحة مسؤوليات الجهات الرسمية من اصحاب الواجب، التي ينبغي عليها التصرف بناء على نتائج تحليل السياق، وضمان حصول المواطنين على حقوقهم، وضمان وجود فهم مشترك بين أصحاب الحقوق واصحاب الواجب عن إعمال حقوق الإنسان.

والتمكين ينطوي على توافر مصادر الوعي والتدريب وبناء القدرات لكل من (أ) اصحاب الواجب كي يصبحوا اكثر وعياً بنصوص القانون، وبلغة حقوق الإنسان التي تجرم الفساد الذي ينتهك الحقوق، وللتحوط من مثولهم للمساءلة حال انتهاك هذه المعايير و(ب) توفير الوعي وبناء القدرات لأصحاب الحقوق من المواطنين وتمكينهم من سبل مكافحة الفساد من خلال اللجوء لهيئة مكافحة الفساد، والقضاء والنيابة والبرلمان، ورفدهم بمهارات الاستخدام الذكي لوسائل الاعلام بصفتها احد اليات الرقابة الشعبية الفعالة، لفضح الفساد وتقديم المفسدين لمحاكمة عادلة.

وتعبر مشاركة اصحاب الحقوق من المواطنين في رسم سياسات وخطط وتدابير مكافحة الفساد أمراً في غاية الاهمية، حيث أن مشاركة أصحاب الحقوق بصورة فاعلة وحرة وذات مغزى، وليس مجرد استشارة، سوف يمنحهم القوة والشجاعة للتصدي للفساد والابلاغ عن حالاته وعن مقترفيه. إن غياب مشاركة اصحاب الحقوق واستثنائهم من الخطط الوطنية التنموية لمكافحة الفساد، يشكل انكاراً لحقوق الإنسان، ومن شأنه أن يضعف هذه السياسات والتدابير التي ستبدو احادية فوقية، وستفضي الى تمييز وخصوصاً بحق الفئات الضعيفة.

ان الفساد خطر جسيم يتهدد حقوق الإنسان ويجرد ضحاياه من حقوقهم الكفولة بالقانون، ويمنح مقترفيه مزايا وانتفاخ على حساب الاخرين، وسيكون الاطفال والنساء والاشخاص من ذوي الاعاقة وتلك الفئات الهشة الأخرى، اكثر تأثرا من نتائج الفساد. ومن هنا يجب ان تحاط برامج تمكين ومساعدة هذه الفئات بوسائل حماية أكبر تقيهم وتحميهم من مخاطر الفساد. وللإسهام في منع التمييز بحق هذه الفئات الضعيفة يجب تأهيل الموظفين العموميين، وكذلك العاملين في منظمات المجتمع المدني التي تعمل على برامج تنموية ذات صلة بحقوق الاشخاص ذوي الاعاقة والمرأة والطفل، واذكاء وعيهم بمخاطر الولوج للفساد، وتطبيق مدونات سلوك اخلاقية ضمن اطر عملهم المؤسسية والقانونية، وتعزيز قيم الامانة والنزاهة والمسؤولية.

إن المساءلة والمحاسبة تشكل رادعاً قوياً للفساد، وإن الرقابة التشريعية على اداء السلطة التنفيذية، واقرار الموازنة، وادوات الرقابة المعروفة مثل السؤال والاستجواب وحجب الثقة هي ادوات فاعلة بحق المتنفذين اصحاب الواجب الذين قد يستغلون مواقعهم الوظيفية لحرمان الضحايا بشكل فاسد وتعسفي من حقوقهم، وتشكل اليات الرقابة القضائية والنيابة العامة، وتدابير حماية الشهود، اذرعاً فاعلة للمساءلة والمحاسبة، كما ان العقوبات التأديبية والجزائية تسهم في وضع حد للفساد. وإن تقديم التقارير الكاشفة عن الذمم المالية للموظفين الذين يحتلون مواقع ومناصب وظيفية " قد يرتع فيها الفساد ويترعرع" تشكل احد أدوات المساءلة الوقائية المبكرة، وإن تقديم التقاريرالدورية للقطاعات المالية العامة، وفي القطاع الخاص وللمنظمات غير الحكومية يشكل أمراً يدخل في اطار الرقابة الفاعلة التي تثري موضوعات المساءلة والمحاسبة ومنع تضارب المصالح، وتحد من الاثراء الفاسد، والكسب غير المشروع، ومكافحة ومنع غسل الاموال.

ولا بد من تعزيز اشكال المساءلة الشعبية المبنية على المشاركة والتمكين، والقيام بأنشطة اعلامية تسهم في منع التسامح مع الفساد.

إن مكافحة الفساد مهمة قانونية واخلاقية وطنية، تسهم في تعزيز وحماية حقوق الإنسان، وفي نجاح خطط التنمية وبلوغها اهدافها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد