شكل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الخميس الماضي والذي تقدمت به كلا من تركيا واليمن بما تضمنه من نصوص من جهة والتطورات التي رافقت عملية صناعته والتقدم به للجمعية العامة ومشهد التصويت عليه من جهة ثانية قرارا هاما وفريدا، ربما لم تحظ بمثله قرارات أخرى للجمعية العامة.

إن القرار ينطوي على دلالات مثيرة وجب التأمل فيها، لجهة ما ورد فيه من نصوص وكذلك الآلية التي عقدت بموجبها جلسة الجمعية العامة والتي نادرا ما التأمت منذ نشأتها وعلى مدي تاريخها ولجهة الاختلال الخطير الذي رافق سلوك الإدارة الأمريكية في إدارة موقفها من القرار في علاقتها بدول العالم ومؤسساته الدولية.

أولا: أعاد القرار نصاً وإحالةً لقرارات سابقة للجمعية العامة نفسها ولمجلس الأمن ولميثاق الأمم المتحدة نفسها، التأكيد على ثلاثة قضايا أساسية، أولها على المركز القانوني للقدس بصفتها أرض محتلة وبأنها جزء من الأراضي المحتلة وثانيها، رفع المشروعية القانونية والسياسية والأخلاقية عن كل القرارات والاجراءات والتدابير التي اتخذتها دولة الاحتلال على مدى نصف قرن، هو عمر احتلالها حتى تاريخ القرار، والتي تهدف إلى تغيير طابع مدينة القدس الشريف أو تركيبتها الديمغرافية بآنها ليس غير قانونية، وبأنها لاغية وباطلة، ويجب إلغاؤها امتثالا لقرارات الامم المتحدة ذات العلاقة والمشار اليها في القرار وثالثها بأن ما قامت به الولايات المتحدة من قرار بنقل سفارتها في إسرائيل ليس فقط بأنه غير قانوني ومخالف لقرارات مجلس الامن والشرعية الدولية، بل دعا جميع الدول إلى الامتناع عن إنشاء بعثات دبلوماسية في مدينة القدس، عملا بقرار مجلس الأمن 478 (1980) والذي صدر إثر قرار إسرائيل إعلان القدس عاصمة لها.

ثانيا: صوت لصالح القرار ١٢٩ دولة وعارضته ٥ دول وامتنعت عن التصويت ٣٥ دولة، وهو ما يؤكد أن الأمم المتحدة ومن خلفها دول العالم قد صوتت لنفسها وانتصرت لميثاق الامم المتحدة وللقانون الدولي وللعلاقات المستقرة بين جماعة الأمم المتحضرة من جهة، كما ويؤكد بأن نتيجة التصويت قد تسببت في عزل موقف الولايات المتحدة ومعها دولة الاحتلال وأظهرهما بمظهر المخالف للإرادة الدولية من جهة ثانية، لاسيما وأن كثير من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين قد صوتوا لصالح القرار أو امتنعوا عن ذلك ضد رغبتها.

مما لا شك فيه أن القرار، هذه المرة، استثنائي حيث صوتت غالبية دول العالم للقرار على الرغم من محاولات الاكراه والتهديد غير المسبوق في العلاقات بين الدول الذي مارسته الولايات المتحدة على الدول الاعضاء ذات السيادة، فقد هدد الرئيس دونالد ترامب دول العالم بوقف المساعدات المالية عنها قائلا: "إنهم يأخذون مئات الملايين من الدولارات وربما المليارات ثم يصوتون ضدنا. حسنا، سنراقب هذا التصويت، دعوهم يصوتون ضدنا، سنوفر كثيرا ولا نعبأ بذلك".

ثالثا: عُقدت جلسة الجمعية العامة وفقا لقرارها رقم ٣٧٧ للعام ١٩٥٠ والمعنون "متحدون من اجل السلام"، وهي التي لم تنعقد سوى عشر مرات منذ نشأتها حتى اليوم بموجب هذا القرار، حيث تنعقد الجمعية العامة اذا فشل مجلس الامن في تأمين اجماع بين أعضائه للقيام بدوره في حفظ الامن والسلم الدوليين وهو ما يعني ان قرار الولايات المتحدة بنقل سفارتها ومن ثم استخدام الفيتو في مجلس الأمن، يمثل ابتداء تهديدا للأمن والسلم الدوليين كما ورد في ميثاق الامم المتحدة لذا فقرار الجمعية العامة يحتل قيمة قانونية وأخلاقية كبيرة.

رابعا: من الملفت في التصويت على القرار هو تصويت اوروبا عليه، ولاسيما اللاعبين الكبار كالمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا، والذي حمل في طياته دلالات هامة. وهو ما يتطلب إعادة الاعتبار للعلاقة المختلة مع اوروبا وتصحيح الخطيئة السابقة التي ارتكبها الفلسطينيون عندما وضعوا كل اوراق العملية التفاوضية في يد الولايات المتحدة، خصوصا ان هناك اختلافات وتناقضات بائنة بين اوروبا والولايات المتحدة في كثير من العلاقات البينية وكذلك ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ويحب ان يتاح لأوروبا لعب دور مهم في القادم من الايام ومما لاشك فيه آن إقصاء أوروبا عن لعب دورها السياسي والتعامل معها كدافع أموال لا يخدم الفلسطينيين ولا قضيتهم والذي يحول دون توافر عملية تفاوضية متوازنة، وهو الدور الذي أرادته إسرائيل لها وحصرته فيه. وهنا لابد من التذكير بالعلاقة القوية التي ربطت الشهيد ياسر عرفات بأوروبا ومثالها علاقته بشيراك وميتران وبابندريو وبرونو كرايسكي وآخرين.

خامسا: على الرغم من أن القرار قد ظهر المركز القانوني للقدس من جهة وعزل الموقف الامريكي من جهة ثانية، إلا انه يجب أن يدفع الفلسطينيين للعمل فورا على البحث في كل السبل لحماية سكان القدس المدنيين المحميين بموجب قواعد القانون الدولي وممتلكاتهم وهو ما يستوجب، من بين أشياء أخرى، العمل على عقد مؤتمر الاطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة للعام ١٩٤٩ لدفع العالم للبحث في سبل حماية المدينة المقدسة سكانا وممتلكات وأماكن مقدسة وهوية.

سادسا: لابد من تحصين قرار الجمعية العامة بتحصين مواقف الدول نفسها من قرار الجمعية العامة، من خلال المؤسسات الاقليمية التي تنتمي اليها وهي التي تتميز بقوة الالتزامات القانونية لقراراتها وأولها جامعة الدول العربية ومؤسسات الاتحاد الاوربي ومنظمة الوحدة الافريقية ومنظمة دول امريكا اللاتينية وذلك بتبنيها لقرارات تؤكد على جوهر ما ورد في قرار الجمعية العامة نفسها.

سابعا: لم يعد ممكنا ان يواصل الفلسطينيين التعامل على أرضية رد الفعل في قضاياهم الكبرى وهو ما يجب تجاوزه لما تركه من انكشاف خطير وهشاشة أضعفته وسلبته ممكنات أي فعل حقيقي وجعلته عرضة لأي تطور في الاقليم أو في أي مكان.

إن القيام بالفعل المبادر يُعظم من الاشتباك السياسي والقانوني مع الاحتلال وذلك باستخدام كل الهوامش والممكنات المتوفرة وهي كثيرة جدا وخلق أخرى جديدة، لا سميا بعد أن حصلت فلسطين في العام ٢٠١٢ على صفة الدولة غير العضو، وليس الانتظار لقرار آخر من الولايات المتحدة وغيرها يدفعنا للزاوية ويحدد اولوياتنا وفقا لما يريد.

ثامنا: من المؤكد آنه لن يكون هناك فعل أو مبادرة أو اشتباك سياسي وقانوني ومشهد التشظي والانقسام الداخلي قائما، وهو ما يجب ان تطوى صفحته مرة وإلى الأبد ووقف هذا العبث الخطير الذي قسم ظهور الفلسطينيين وأضر بشكل خطير بقضيتهم الوطنية وزادهم انكشافا وهشاشة على ما هو قائم وهو ما يعني أن انهاء الانقسام يحب ان يؤسس على التوافق السياسي واعادة الاعتبار للمشروع الوطني والحقوق الاصيلة غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني.

تاسعا: دائما ما كان بند فلسطين بندا متقدما في كل الاجتماعات يحظى باهتمام الفاعلين الدوليين وقلما كان الفلسطينيون يحتاجون إلى عمل حقيقي لتوفير الأغلبية لقرار يصدر من مؤسسات الامم المتحدة، للحد الذي كانت صدور الكثيرين تضيق بتلك القرارات لأعدادها الكبيرة وحقيقة أنها لم توضع في غالبها موضع التنفيذ. منذ أن ضرب الاقليم ما سمي بالربيع العربي، تراجعت أولويات العالم لصالح قضايا اقليمية أخرى كسوريا واليمن ولأخرى دولية كأوكرانيا والقرم وربما حدود المكسيك، وغني عن القول بأنه ومنذ أن تولت الادارة الجديدة للولايات المتحدة مقاليد الحكم وهي تسعى لخلق قواعد لعبة جديدة وقلب قواعد الشرعية والقانون الدولي رأسا على عقب.

إن اليوم الذي يمر على الفلسطينيين دون الحصول على قرار من جمعية عامة او مؤسسة دولية سوف يُسهم في مواصلة دفع بند فلسطين ليتذيل اجندة المجتمع واهتماماته مما سيكون له تكلفة كبيرة جدا على القضية الوطنية، في ظل المحاولات المستميتة لحسم الصراع والقضايا الكبرى فيه.

إن قرار الجمعية العامة هام جدا لأنه أعاد ترتيب الاجندة ولو مؤقتا حيث فرضت فلسطين والقدس نفسها على اجندة العالم مرة أخرى وأعادت موضعة نفسها في مكان تستحقه، وعلى الرغم من ذلك فإن القرار، وهو قرارا كاشف وليس منشئ، وجب عقلنته بما تضمنه وأكد عليه، وبما يمكن البناء لأخذ زمام المبادرة ووقف العمل على أرضية رد الفعل والذي جلب حصادا مرا وآثما.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد