ثمة تبعات كثيرة لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب المجحف والقاضي بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة واعتراف بلاده بها عاصمة لإسرائيل، وهي تبعات مازالت تتفاعل حتى الآن وهي مرشحة للمزيد من التفاعل سواء الميداني أو السياسي. لكن واحدة من هذه التعبات أن فلسطين الدولة غير الناجزة، والبلاد تحت الاحتلال والاستعمار، والشعب المشتت في كل الأرجاء، وجدت فلسطين نفسها تقود العالم الحر في وجه رأس الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة التي تمثلهما الولايات المتحدة. فلسطين لا تقف ضد الولايات المتحدة، بل تقف في قيادة العالم، على رأس سرية الأحرار والأخلاقيين في وجه الصلف والتعنت وانتهاك القانون الذي تقوم بهما واشنطن. فلسطين التي لم يسمح لها حتى الآن أن تكون دولة كامل العضوية في المنظمة الدولية، تدافع الآن بشراسة واستبسال عن قيم هذه المنظمة من خلال قيادتها للعالم لشجب انتهاك الولايات المتحدة لواحد من أهم القوانين والشرائع التي تحكم علاقات هذه المنظمة الدولية وأعضائها: الشرعية الدولية.
فإذا كان ثمة من يقف فوق الجميع فعلى الجميع أن يوقفه عند حده.
هل يمكن تخيل مشهد مماثل في العالم.
يمكن بالطبع ولكن عندها سيقوم الضعيف بالاستسلام والتسليم بموازين القوة والرضوخ لرغبة القوى، وهذا شيء لا تعرفه فلسطين ولا الشعب الفلسطيني ولا القيادة الفلسطينية ، لأن هذا الشعب لو عرف الاستسلام لكان انتهي يوم تم وضع أول طوبة في أول مستعمرة وثكنة على أرضه في نهايات القرن التاسع عشر بمساعدة أعتى وأقوى دول العالم في ذلك الوقت وبتواطؤ القريب والبعيد، الصديق والعدو.
فلسطين اليوم وهي تقود هذا الحراك العالمي ضد الولايات المتحدة تعرف أنها، بقدر دفاعها عن حقوقها التي لا يمكن أن يسلبها ليس قرار ترامب بل مليون قرار مثله، تدافع عن أخلاق العالم، عن حرية رأيه أمام البلطجة التي أرادت الولايات المتحدة أن تستخدمها من أجل منع العالم من أن يقف أمام مسؤولياته الأخلاقية ، فالعالم لم يعد سلعة بلغة السفير الفنزويلي، وقوة الحق أكبر من قوة السلاح، وإرادة الشعب لا تقهر، والنضال لا يمكن أن يقف عاجزاً عن ألحاق الهزيمة بالاستعمار.
هذا لم يحدث في السابق، فالعالم كان يتخوف ويحذر من مجابهة أميركا ، حتى في ذروة الحرب الباردة كان الاحتكاك والمماحكة بين القوتين العظميين تتم بحذر ودون أية محاولة لتسعير الخلاف، فلسطين تجابه الولايات المتحدة عبر المنظمة التي تم تأسيسها وفق مبادىء الرئيس الأميركي ويلسون نفسه.
لا نرميهم بحجارتهم، ولكن نقاوم صلفهم بأخلاقنا، بقوة إيماننا بالعدل والحرية التي يجب أن يتمتع بهما المجتمع الدولي ، فالمنظمة الدولية التي كان لها الدور الأسوأ في ظلم الشعب الفلسطيني عبر قراراتها المجحفة بحقه والتي يقع في قلبها قرار التقسيم ومن ثم قرار الاعتراف بإسرائيل ومنحها عضويتها دون مراعاة تنفيذ الاشتراط الذي تحدث عنه القرار بوجود دولة عربية، هذه المنظمة رغم ذلك قررت فلسطين أن تكون ساحة الوغى الذي تشتبك فيها مع أقوى دولة في العالم ، فالفلسطيني لا يريد القمر ولا يريد أن يبني مملكة على المريخ، وهو لا يريد أن يحتل بنما أو التشيك والدول التي عارضت مشروع القرار بغير حق، ولا هو يريد أن يعيد الولايات المتحدة إلى سكانها الأصليين الهنود الحمر، ولا أن يقول أن واشنطن هي عاصمة كوريا الجنوبية، ولا يطالب محاكمة قادة رعاة البقر على المجازر التي ارتكبوها بحق سكان القارة الأصليين، هو يريد حقه ولا شيء غير حقه. وهذا الحق كما لم يحدده وعد بلفور المشؤوم لن يحدده وعد ترامب الأرعن.
إنها حرب باردة من نوع آخر تلك التي تقودها القيادة الفلسطينية في وجه اكبر ترسانة في التاريخ ، حرب من نوع مختلفة، حرب الضعيف الذي يمتلك قوة الأخلاق والمسلوب الذي يستطيع أن يعزل كل القوى السالبة وتتركه وحيداً.
لاحظوا أن العالم حين صوت لصالح مشروع القرار إنما صوت ضد الولايات المتحدة.
قد نفهم أن تقوم دولة باستخدام حق النقض ضد مشروع قرار لصالح واشنطن أو أن تقوم الأخيرة بنقض مشروع قرار لصالح موسكو وغير ذلك، لكننا أمام حالة يصبح العالم حين يرفع يده لصالح القرار إنما يرفعها لقول لا كبيرة لواشنطن.
واشنطن التي وقف رئيسها يراقب التصويت مهدداً كل من يرفع يده لصالح مشروع القرار.
العالم بقيادة فلسطين يستيقظ ضميره ويقول :لا لواشنطن، لا لكل ما تمثله واشنطن من عربدة وإزدراء لحقوق الشعوب، لا للبلطجة والتنكيل بالقانون الذي تحترفه إدارة ترامب.
وهذا بدوره يعيد طرح السؤال حول مكانة المنظمة الدولية وتوزيع القوة داخلها، خاصة مفهوم مجلس الأمن الدولي ونوع العضوية فيه وتوزيعها بين دائمة وغير دائمة.
لا يعقل أن تقوم دولة دائمة العضوية، مناط بها حماية الأمن والسلم الدوليين بتشكيل خطر على العالم ، فما قام به الرئيس الأميركي لم يكن مجرد انتهاك لأحد اهم مناطق الإجماع الدولي حول واحد من أهم الصراعات الساخنة في العالم والمتعلق بمكانة القدس، بل إنه إلى جانب ذلك شكل تهديداً للاستقرار في العالم، وهو بالتالي يستحق الإدانة وربما المساءلة في المنظمات الدولية والمحاكم المختصة. والنقاس حول مستقبل المنظمة الدولية نقاش قديم ظهر من استكمال فكرة العضوية الدائمة، واستعر مع انهيار جدار برلين وغياب هذا التوازن غير المنصف للتصويت الذي ربما تطلبته الحرب الباردة، وتغيير موازين القوة في العالم من مجرد كتلتين تهيمنان على القوة إلى عالم متعدد الأقطاب، ومع تغير مفهوم القوة الحاسمة وظهور قوى صغيرة ولكن قادرة على الإيذاء أكثر من الدول العظمى، كل هذا يتطلب نقاشاً حراً حول مستقبل العالم ومستقبل المنظمة الدولية.
صحيح أن واشنطن اكثر من يدفع، لكن العالم حقاً ليس سلعة، وعليه يمكن إعادة ترتيب كل ذلك من أجل عالم أفضل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية