آثرت أن أتعرض لموضوع شديد الحساسية فى توقيت بالغ الصعوبة ارتباطاً بحالة الغضب العارم التى تجتاح الأراضى الفلسطينية المحتلة فى كل من الضفة الغربية، و القدس ، وقطاع غزة ، تلك الحالة الطبيعية المبررة للغاية فى ضوء القرار الأمريكى المجحف بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وقد دار بينى وبين نفسى حوار طويل وتساؤل عميق، مفاده هل الفلسطينيون فى حاجة إلى انتفاضة ثالثة، لتكون بمثابة رسالة شديدة الوضوح فى وجه احتلال إسرائيلى غاشم وتحيز أمريكى ظالم وضعف عربى واضح وعجز دولى شامل، أم أن الأمر يحتاج لترشيد وإعادة الحسابات وتوجيه مدروس لبوصلة المقاومة، حتى يكون كل الجهد الفلسطينى موجهاً فى الطريق الصحيح، وقادراً على أن يجنى ثمار هذا الجهد.

بداية هناك خمس حقائق واضحة من الضرورى الإشارة إليها:

الحقيقة الأولى أن المقاومة تعتبر حقاً مشروعاً للشعوب الخاضعة للاحتلال من أجل الحصول على حق تقرير مصيرها، وهو حق أصيل لا غبار عليه كفله القانون الدولى وأيدته المواثيق الدولية.

الحقيقة الثانية أن القضية الفلسطينية قائمة بشكلها الحالى منذ أكثر من نصف قرن وتحديداً فى أعقاب حرب ٦٧ واحتلال إسرائيل لكل من الضفة الغربية، والقدس، وقطاع غزة، ومنذ هذا الوقت وكل الجهد الفلسطينى والعربى والدولى المبذول يتحدث عن دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على مساحة ٢٢ في المائة فقط من مساحة فلسطين التاريخية.

 

الحقيقة الثالثة أن إسرائيل بدأت مخططاتها الاستيطانية فى القدس الشرقية واختارتها لتكون المحطة الأولى فى قطار التهويد وذلك بعد أيام قليلة من احتلالها، ثم دعمت ذلك بقرار حكومى بضم القدس الشرقية إلى القدس الغربية عام ٦٧، ثم قرار للكنيست عام ١٩٨٠ باعتبار القدس الموحدة عاصمة أبدية للدولة، ومنذ ذلك التاريخ وهى تقوم بعمليات تهويد ممنهجة وتوسيع مدروسة وتغيير فى التركيبة الديموجرافية فى القدس الشرقية، حتى تغير طبيعة الوضع القائم، وتفرض واقعاً جديداً، يحول دون حصول الفلسطينيين على حقهم الطبيعى فى مدينتهم التاريخية، وللأسف كانت دول العالم، وما زالت تقوم بدور المراقب فقط فى مواجهة هذه السياسات الإسرائيلية.

 

الحقيقة الرابعة أن المجتمع الدولى بأكمله لم يعترف مطلقاً بهذه التغييرات الإسرائيلية فى مدينة القدس الشرقية، ولا بد أن أذكر هنا أن الولايات المتحدة كانت أولى الدول التى عارضت هذه السياسة الإسرائيلية من خلال بيانين ألقيا فى يوليو ١٩٦٧ الأول للسفير تشالرز يوست سفير الولايات المتحدة فى مجلس الأمن، والثانى للسفير آرثر جولدبرج سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، أدلى به أمام الجمعية العامة؛ حيث أكد البيانان عدم الاعتراف بأية تغييرات تتم فى القدس من جانب طرف واحد، وأن واشنطن تعتبر القدس الشرقية مناطق محتلة.

 

الحقيقة الخامسة أن القدس الشرقية لن يغير من وضعيتها قرار أمريكى أو يمحوها إجراء إسرائيلى، فسوف تظل مدينة عربية فلسطينية، وستكون عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذه هى أحد الثوابت التى لا يملك أى زعيم فلسطينى أو عربى أن يتنازل عنها تحت أية ظروف.

 

وبالتالى فالقرار الأمريكى الذى أعلنه الرئيس ترامب، وكأنه يزف بشرى القضاء على الإرهاب فى العالم، لم يكن سوى تأكيد لتطابق الموقفين الأمريكى والإسرائيلى من الناحية النظرية لم نتعود أن تعلنها إدارة أمريكية سابقة بهذا السفور, كما أن هذا القرار لم ولن يغير من طبيعة الوضع القائم على الأرض ولنيدخل القدس الشرقية عملياً إلى دائرة السيادة الإسرائيلية المزعومة, صحيح أنه يزيد من غطرسة الموقف الإسرائيلي، ويخرج الولايات المتحدة من دائرة الوسيط المحايد؛ ولكنه لن يقضى على ثوابتنا بأن القدسالشرقية هى عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة التى ستقام رغماً عن أنف إسرائيل ومؤيديها ورغم كل هذه الصعوبات والتعقيدات.

 

ونأتى إلى الحديث عن مدى إمكانية نشوب انتفاضة ثالثة بمعناها الواسع، وفى هذا المجال علينا أن نستذكر أولاً وبكل الاحترام الانتفاضة الفلسطينية الأولى التى بدأت فى الثامن من ديسمبر ١٩٨٧ واستمرت نحو خمس سنوات, ومن المهم أن أشير هنا إلى النقاط التالية:

 

أن الانتفاضة الأولى بدأت فى وقت كانت القيادة الفلسطينية التاريخية تعيش فى الخارج، ولم يكن قد تم التوصل إلى أية تسويات سياسية مع إسرائيل حتى ثم توقفت أعمال الانتفاضة قبل اتفاق أوسلو ١٩٩٣.

 

أن هذه الانتفاضة أذهلت العالم فعلياً من جراء طبيعتها المتفردة التى ابتعدت عن العنف بشكل كبير واستخدمت وسائل العصيان والإضرابات حتى أطلق المجتمع الدولى عليها انتفاضة الحجارة، بل وتعاطف معها وأصبحت حدثاً تاريخياً له قدسيته فى تاريخ الكفاح الفلسطينى فى مواجهة الاحتلال الإسرائيلى.

 

أن الانتفاضة الأولى كانت أحد الأسباب التى أدت إلى عقد مؤتمر مدريد للسلام فى أكتوبر ١٩٩١ وما تلاه من توقيع اتفاقات أوسلو التى حددت منهجية التفاوض من أجل إقامة الدولة الفلسطينية الأمر الذى لميتحقق للعديد من الأسباب.

 

أن أهم ما ميز هذه الانتفاضة أنها كانت بعيدة عن الفصائلية ولم يستطِع أى تنظيم فلسطينى أن يعلن بحق أو بغير حق أنه المسئول عنها أو أنه المحرك لها بل كانت انتفاضة شعبية لها قيادة وطنية موحدة لا يعلمها أحد تصدر بياناً مقدساً أول كل شهر ينتظره الجميع يحدد شكل التحرك وطبيعة الفعاليات التى تتمعلى الأرض خلال شهر كامل.

 

*** وبعد مرور أقل من عشر سنوات بدأت الانتفاضة الثانية فى أعقاب قيام رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق أريئيل شارون باقتحام المسجد الأقصى فى الثامن والعشرين من سبتمبر عام ٢٠٠٠ ومع كل التقدير للتضحيات التى تمت فى هذه الانتفاضة والنتائج السياسية التى أسفرت عنها، إلا أنها كانت مغايرة تماماً للانتفاضة الأولى فى ضوء ما صاحبها من أعمال عنف أدت إلى مزيد من دعم للتوجه اليمينى فىالشارع الإسرائيلي، كما حرصت بعض الفصائل على امتلاك زمام الانتفاضة وتوجيهها لخدمة أهداف محددة، مما نجم عنه إعادة احتلال إسرائيل بعض المناطق الفلسطينية التى كانت قد انسحبت منها فى الضفة الغربية تطبيقاً لاتفاقات أوسلو وما تلاها من تفاهمات, إضافة إلى نجاح إسرائيل فى إقناع المجتمع الدولى بالربط بين هذه الانتفاضة والإرهاب, ولا يفوتنا هنا أن نؤكد أن إسرائيل واجهت الانتفاضتينباستخدام كل وسائل العنف التى تمتلكها.

 

وهنا علينا أن نتطرق إلى تقييم الإيجابيات والسلبيات المترتبة على فكرة الانتفاضة الثالثة حتى يكون حكمنا عليها موضوعياً وبعيداً عن العاطفة:

 

أولاً: الإيجابيات

 

إعادة القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء وجذب انتباه العالم إلى أن هناك شعبا لا يزال يخضع لأبشع أنواع الاحتلال، ولم تنجح كافة جهوده السلمية وتحركات قياداته فى أن يحصل على أقل حقوقه ويعيش فى دولة مستقلة مثل باقى شعوب العالم.

 

إثبات أن الشعب الفلسطينى لايزال يمتلك أهم أداة كفلها له القانون الدولى، وهو حق المقاومة وهو قادر على استخدامها فى أى وقت.

 

استخدام سلاح المقاومة كنوع من الضغط السياسى على إسرائيل والمجتمع الدولى من أجل التدخل الفعال لحل القضية الفلسطينية.

 

ثانياً: السلبيات

 

أن الانتفاضة الثالثة تتم فى ظل حرب شعواء يشنها العالم على الإرهاب، وللأسف من المتوقع أن تسعى إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوربية إلى أن تحاول الربط بين الانتفاضة والإرهاب خاصة إذا ما تخطت الانتفاضة حدود المناطق الفلسطينية إلى الداخل الإسرائيلى.

 

إلغاء كافة الإيجابيات التى تحققت من جراء اتفاقات أوسلو، التى أرست اللبنة الأولى فى إقامة الدولة الفلسطينية (أرضا وشعبا وحكومة) وأنشأت كافة مؤسسات السلطة الرئاسية والحكومية والتشريعية والأمنية والاقتصادية، بل ومنحت السلطة وضعية سياسية ودبلوماسية دولية مميزة وصلت إلى حد منح الجمعية العامة فلسطين وضع دولة غير عضو مراقب فى نوفمبر ٢٠١٢ , مع التسليم بأن اتفاق أوسلو بكل ما له وما عليه ليس هو الحل والمبتغى، ولكنه الوسيلة التى يمكن أن نناور بها فى مساحات كبيرة نملكها ولكن دون أن ندمرها بأيدينا.

 

إلحاق مزيد من الخسائر المادية والبشرية والاقتصادية والاجتماعية بالشعب الفلسطينى فى الضفة والقطاع مع تزايد احتمالات أن تقوم إسرائيل بشن حرب ثالثة على غزة تنهى فيه كل المشروعات الطموحة لإعادة إعمار القطاع.

 

تأجيل كل الجهود المبذولة من أجل إنهاء الانقسام الفلسطيني، بعد أن وصلنا إلى مرحلة متقدمة من تمهيد الطريق أمام إنجاز المصالحة التاريخية برعاية مصرية.

 

وفى ضوء ما سبق أرجو ألا يظن أحد أننى لا أؤيد فكرة الانتفاضة أو ما أسميها بالمقاومة السلمية المتواصلة والمرشدة؛ ولكنى أحاول أن أضعها فى إطار سليم ومناسب قدر الإمكان، حتى لا تخرج عن هدفها الأسمى المنشود، ولا تؤدى إلى خسائر تكرر سلبيات الانتفاضة الثانية, ومن ثم أرى أن تكون هذه الانتفاضة فى إطار محددات أربعة رئيسية:

 

المحدد الأول: أن تكون بعيدة تماماً عن سياسة ومصالح التنظيمات والفصائل، حتى لا يقوم تنظيم فلسطينى واحد أياً كان بأن ينسبها لنفسه، فهى باختصار انتفاضة أو غضب عارم أو هبة شعبية أو مقاومة سلمية تندلع من أسفل إلى أعلى ضد وضع جائر بهدف تغييره.

 

المحدد الثانى: ألا تنزلق إلى عمليات مسلحة ضد مدنيين حتى لا تكون عرضة لأن يتهمها المجتمع الدولى بأنها نوع من الإرهاب الذى أجمع العالم على محاربته ومواجهته فى كل مكان.

 

المحدد الثالث: ألا تخرج عن مبدأ ومفهوم المقاومة السلمية بكافة أنواعها ومظاهرها، خاصة فى هذه الظروف الإقليمية والدولية الحرجة مع ضرورة اتسامها بالاستمرارية ولا تنتهى إلا فى حالة وجود نتائج إيجابية تعود على القضية الفلسطينية, ومن المؤكد أن هذه المقاومة السلمية ستحقق لنا كافة الإيجابيات وتتجنب كل السلبيات التى أوردتها من قبل فى تقييمى لفكرة الانتفاضة الثالثة, وفى هذا المجال أستحضر نموذج هبة المسجد الأقصى السلمية، التى اندلعت فى يوليو الماضى وكيف نجحت فى جذب أنظار العالم، وأجبرت إسرائيل على التراجع عن تركيب البوابات الإليكترونية على أبواب المسجد الأقصى المبارك.

 

المحدد الرابع: أن تخدم الحركة السياسية الفلسطينية والعربية والدولية التى انبثقت بقوة فى أعقاب القرار الأمريكي، ولا تتعارض معها حتى يظل التعاطف الدولى مع القضية قائماً، ولا نفقده فى أية مرحلة.

 

وفى نفس الوقت من الضرورى ألا تسير الانتفاضة فى الإطار الرباعى الذى اقترحته بمعزل عن التحرك السياسى؛ حيث يجب أن يتم بالتوازى معها تحرك الجانب الفلسطينى مع الجانب العربى والمجتمع الدولى؛ مستخدماً كل أسلحته وأدواته السياسية، التى من أهمها عرض القضية دون كلل أو ملل فى الأمم المتحدةسواء فى مجلس الأمن أو الجمعية العامة للحصول على كل ما يدعم الحق الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة على حدود ٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية, كما لا بد من إعادة طرح مبادرة السلام العربية وتسويقها مع كل دول العالم, إضافة إلى ضرورة أن نبذل جهداً أكبر لإقناع العالم بأن الإرهاب لن ينتهى دون حل القضية الفلسطينية، وأن ثورة الشعب الفلسطينى لم تأتِ من فراغ ولكن بسبب عدم حصوله على أبسط حقوقه المشروعة.

 

ومن هنا أرى أن المعركة السياسية النشطة التى بدأتها مصر والسلطة الفلسطينية والدول العربية يجب ألا تقتصر على مواجهة القرار الأمريكى بشأن القدس؛ ولكنها يجب أن ترتكز على ضرورة الانطلاق من الآن نحو البدء فى تنفيذ خطة شاملة فلسطينية عربية منسقة مع المجتمع الدولى يتم مراجعتها وتقييم نتائجها على فترات زمنية قصيرة، من أجل أن يكون العام المقبل ٢٠١٨ هو عام إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا هو التحدى الحقيقى أمامنا جميعاً، وأعتقد أننا بإذن الله قادرون على إنجاز التحدى وتحقيق الهدف.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد