الحديث عن نوايا الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالإقدام على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس أو كخطوة بديلة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أثار ردود فعل غاضبة لدى الفلسطينيين على كل المستويات، ومثل هذه الخطوة تنطوى على مخاطر جمة في كل ما يتعلق بالعملية السياسية والاستقرار والأمن في هذه المنطقة، ومن شأنها كذلك وقبل كل شيء أن تقطع الطريق على الدور الأميركي في أية جهود سياسية حالية أو مستقبلية. ولعل رد الفعل الفلسطيني الرسمي من هذا الموضوع يشير إلى مدى خطورته وحجم تأثيراته السلبية على مستقبل المنطقة.


الرئيس محمود عباس أرسل مدير المخابرات اللواء ماجد فرج إلى واشنطن للانضمام إلى صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية للحديث إلى الإدارة الأميركية وتحذيرها من مغبة الإقدام على خطوة بهذه الخطورة لا أحد يمكنه أن يتنبأ بحجم تداعيتها. كما أرسل نائب رئيس الوزراء زياد أبو عمرو للقاء القنصل الأميركي في القدس دونالد بلوم للتأكيد على رفض أي موقف أميركي جديد بخصوص القدس، وأنه إذا اتخذت الإدارة الأميركية قراراً سواء بنقل السفارة الأميركية إلى القدس أو بالاعتراف بها عاصمة لإسرائيل فإن القيادة الفلسطينية ستعفي نفسها من أي التزام أو تفاهمات سابقة مع الإدارة الأميركية، بمعنى أن القيادة ستعيد النظر في مواقفها من كل ماهو مرتبط بالشأن السياسي مع إسرائيل والولايات المتحدة على السواء.


وحتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أجرى اتصالاً مع نظيره الأميركي وحذره من خطوات أحادية بخصوص القدس، وعبر عن قلق فرنسا من أي موقف يغير الوضع القائم على هذا الصعيد. وأصدر وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل تحذيراً للولايات المتحدة من ״خطورة أية خطوة في مدينة القدس». وبطبيعة الحال الدول العربية وخاصة مصر والأردن أبلغت واشنطن بأن قرارات أميركية جديدة بشأن القدس من شأنها أن تؤجج مشاعر التوتر في المنطقة. وقالت الجامعة العربية ان الاعتراف الأميركي بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل في حال تم فهو يمثل اعتداءً على الأمة العربية والشعب الفلسطيني. وعموماً لا أحد في العالمين العربي والإسلامي يمكنه أن يقبل مواقف سياسية أميركية تؤثر على مستقبل القدس ووضعها الثابت دولياً. وقد دعت منظمة التعاون الإسلامي إلى عقد قمة طارئة في حال قررت الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعتبرت أن هذا سيشكل «اعتداءً» على العرب والمسلمين. كما حذرت تركيا بشكل منفرد الإدارة الأميركية من عاقبة قرار من هذا القبيل.


من الواضح ان الإدارة الأميركية تدرك خطورة الإقدام على قرارات مصيرية بخصوص القدس وبعد جملة الاتصالات وردود الأفعال، يبدو انها لن تتسرع في اتخاذ موقف جديد، ولعل الاتصال الذي أجراه الرئيس ترامب مع الرئيس ابو مازن يعكس إدراك ترامب لحساسية الوضع. وقد يكون طمأن الرئيس ابو مازن بأنه لن يتخذ حالياً خطوة دراماتيكية على صعيد القدس. ومن الصعب رؤية الإدارة الأميركية تسير عكس التيار وتناقض مواقف كل الأطراف العربية والإسلامية والدولية التي تتبنى موقفاً واضحاً من القدس باعتبار القسم الشرقي منها محتلاً وتعترف بضمه كجزء من عاصمة اسرائيل «الموحدة». ولكن على ما يبدو ان الحديث عن قرارات جديدة بخصوص القدس يستهدف التمهيد للصفقة الأميركية القادمة التي تتضمن خروجاً عن المألوف والمتفق عليه دولياً كمرجعية للعملية السياسية. والتهويش في هذه القضية يراد منه تهيئة الرأي العام الفلسطيني والعربي والدولي لموقف أميركي قد لا يكون بالضرورة مقبولاً على احد.


نحن على ما يظهر مقبلون على مغامرة أميركية كارثية لطرح أفكار أو مشروع لحل الصراع ستعقد الوضع أكثر مما هو معقد وسيترتب عليها احباط وخيبة أمل جديدان، يخلقان مزيداً من التوتر في ساحة الصراع، ولعل الإدارة الأميركية لا تدرك مدى حساسية التلاعب بمسألة القدس، ولعلها لم تتعلم من درس البوابات الإلكترونية في الحرم القدسي التي كادت تشعل المنطقة لولا تراجع إسرائيل في اللحظة الأخيرة وإزالة البوابات والكاميرات. فحتى لو كانت اثارة الموضوع من جانب التكتيك والتهويش فالضرر الذي حصل وسيحصل سيؤثر على قدرة الولايات المتحدة على لعب دور الوسيط في العملية السياسية، فهي لم تكن وسيطاً نزيهاً، ولا تستطيع ان تكون في ظل الانحياز الأعمى لإسرائيل. فما بالنا وهي تتوافق مع حكومة نتنياهو. وهذا الاستخدام الغبي للقدس في المناورات السياسية يعتبر إخفاقاً أميركياً جديداً يحسب على إخفاقات الرئيس ترامب.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد