إذا كان من الخطأ أن نُحمِّلَ الشعوب آثام ما يصدر عن بعض نخبها الفكرية أو السياسية أو الثقافية، فإن من الخطأ، أيضاً، تجاهل المخاطر المترتبة عن بعض الكتّاب، وإن كان عددهم محدوداً حتى الآن، حين يخرجون عن ثقافة مجتمعاتهم، من خلال تحسين صورة الاحتلال الإسرائيلي، وتقديمه كنموذج للتحضُّر والديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.
في الآونة الأخيرة، انبرى بعض الكتّاب من السعودية والبحرين وآخرهم عبد الله الدهلق من الكويت، للمساس والتشكيك بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وإظهار إسرائيل المحتلة على أنها دولة العدل والتي تستحق الحياة. بعض هؤلاء، ومنهم أئمة يلهجون بلغة الإسلام، والعروبة، يفعلون ذلك سعياً وراء التميز، وجذب الاهتمام، والانتقام لبقائهم هامشيين، وغير معروفين حتى في مجتمعاتهم. البعض الآخر، يفعل ذلك من باب المقارنة بين ضعف وتخلف الأنظمة العربية، وبين ما تحوز عليه إسرائيل، بدون أن يدرك بأن دولة الاحتلال هي صنيعة غربية رأسمالية، تم خلقها، وتحديد وظيفتها، وتقديم كل الدعم لها، لكي نكون الكتيبة المتقدمة، لقتل كل مبادرات وظواهر النهوض العربي. لا يدرك هؤلاء أن إسرائيل بوجودها مرهونة للوظيفة التي خلقت من أجلها، هذا من ناحية، وهي من ناحية أخرى مرهونة، لمدى قدرة المجتمعات العربية على مغادرة مربعات التخلف والتشرذم والضعف. ولكن ثمة آخرين على قلتهم، ينساقون لأسباب ودوافع سياسية وراء ظواهر التوتر الشديد المتصاعد بين السنّة والشيعة، وبين عديد الدول العربية وإيران، التي يتسع نفوذها في المنطقة، ويهدد بحسب رأيهم، استقرار ووحدة هذه الدول. العجز وسوء الخيارات، وانعدام الثقة بالذات وبالأمة العربية يقود هؤلاء، إلى الاعتقاد بأن إسرائيل هي الدولة المرشحة قبل غيرها، التي يمكن أن تشكل حبل الإنقاذ من الغول الإيراني، ما يستوجب التحالف معها.
الخوف من تغيير الواقع القائم، وهو قائم على تخلف النظام العربي الرسمي، وعدم الثقة بالذات هو الذي يدفع هؤلاء لابتلاع الطُعم السام، والانسياق وراء السياسة الإسرائيلية الأميركية التي تسعى وراء قلب مبادرة السلام العربية وهي سعودية الأصل رأساً على عقب. يعتقد هؤلاء أن القضية الفلسطينية، معقدة وشائكة وتحتاج إلى وقت طويل، ودونها تضحيات كبيرة، أما الخطر الإيراني فهو خطر داهم، يستوجب وضعه والتعامل معه، باعتباره يقف على رأس أولويات العرب، ما يعني أن الانفتاح والتحالف مع إسرائيل واجب مُلِحّ، ينطوي هذا الفهم على ثقة في غير محلها، ويدل على سطحية شديدة في التفكير، إذ يمكن الاعتقاد بأن إسرائيل حين تحصل على مرادها يمكن أن تنظر في الحقوق الفلسطينية والعربية.
لا يدرك هؤلاء أبعاد السياسات الأميركية الإسرائيلية الطامعة، في السيطرة على المنطقة، ويتناسون تاريخ تدخلات الولايات المتحدة ودوافعها في هذه المنطقة، أو حتى مخططاتها الرامية لتفتيت الدولة الوطنية العربية. ولا يدرك هؤلاء، أيضاً، أن المعلم الإسرائيلي يعكس شعار الحركة الصهيونية، الذي يقول إن أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل. وبالمناسبة على هؤلاء أن يدركوا بأن هذا الشعار قد أصبح قديماً وقد تجاوزته الأحداث والتطورات، إذ لم تعد إسرائيل تكتفي بذلك بل ان أطماعها تمتد إلى الخليج العربي حتى المحيط الهندي فضلاً عن أطماعها في الشرق العربي.
صحيح حتى الآن أن الدول العربية رسمياً، لم تصدر عنها مواقف مختلفة عما تعودت التمسك به بشأن القضية الفلسطينية والحقوق العربية، وان هذه الدول رسمياً، تسعى وراء تسوية سياسية تقوم على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، حتى يمكن تطبيع العلاقات مع إسرائيل والانفتاح عليها. لكن الصحيح، أيضاً، أن هذه الدول لا تقاوم الساعين، نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أو المروّجين للتصالح معها بدون ثمن، ومن دون استعادة الحقوق، وبعيداً عن مبادرة السلام العربية.
في الواقع فإن إسرائيل التي يروّجون لتجاوز جرائمها، والاندفاع نحو الانفتاح عليها، من دون أن تقدم الثمن الذي عليها أن تدفعه، لم تنجح رغم مرور عقود على توقيع اتفاقيات سلام معها من قبل مصر والأردن، لم تنجح في اختراق تلك المجتمعات أو في تطبيع علاقاتها مع شعوبها، فكيف لها أن تحترم إرادات الشعوب واستقلالها، وحقوقها وأن تتعامل مع حقوقها ومصالحها بندّية؟
لا ينبغي الصمت على هذه الأصوات التي تتزايد في المنطقة، ولا ينبغي الاستهانة بمخاطرها، فلعلّ الاختراق الأهمّ والأخطر، هو اختراق الجبهة الثقافية، وهؤلاء محسوبون على هذه الجبهة، ويسعون إلى تغيير ثقافة مجتمعاتهم. في السياسة يمكن أن تخسر بعض المعارك العسكرية أو السياسية، لكن هذه الخسارة لبعض المعارك، لا تشكل خطورة بالمقارنة مع خسارة الثقافة. الثقافة هي الحصن الأخير والأهمّ لأي مجتمع إن كان عربياً أو غير عربي. هذه الاختراقات الثقافية تستدعي، تنشيط جبهة الثقافة المعادية للتطبيع، هذا بالإضافة إلى مسؤولية الدول والمجتمعات المعنية، بضرورة اتخاذ إجراءات رادعة لمثل هذه الاصوات الناشزة، وإلاّ كانت متواطئة ضد بلدانها، ومصالحها، وليس فقط ضد مصالح الشعب الفلسطيني الذي تحتل إسرائيل أرضه وتصادر حقوقه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية