80-TRIAL- في أحيان كثيرة يبدو فيها الرأي العام أكثر وضوحا من كل المحللين وأكثر صدقا من كل الفصائل التي تختفي خلف الكلمات المصاغة بدقة ضبابية، ففي اللحظة التي اجتاحت غزة موجة الانفلات المنظم الجديدة دفعة واحدة وهذه لم تكن بحاجة إلى كثير من التفكير حتى يشير المواطن بإصبع الاتهام إلى المجهول المعلوم في كل جريمة تشابهت فيها بصمات مرتكبيها.
هل علينا أن نتهم "داعش" وفقا للبيان الصادر والذي يريد أن يمنع المهرجان لما فيه من "سفور واختلاط"؟ فهل ستمنع "داعش" احتفال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الشهر القادم لما فيه من "سفور واختلاط" أيضا أم أن الأمر غير ذلك؟ وهل "داعش" على هذه الدرجة من الإتقان والانتشار حتى تنفذ هذه التفجيرات في وقت واحد غير آبهة بكل أجهزة الأمن الموجودة في القطاع؟ فالأجهزة هنا في غزة تفاخرت لسنوات طويلة بقدرتها على كشف كل الجرائم في القطاع وبعضها خلال ساعات قليلة، هل نفهم أن هذه الجريمة المنظمة سيتم كشف مرتكبيها خلال أيام حتى نعطي متسعا لأجهزة الأمن.
فمن هو الفاعل إذن؟ إنه نفسه المجهول المعلوم في كل مرة، هو الذي أطلق النار في ذكرى احتفال ياسر عرفات ولم تخرج نتائج التحقيق حتى اللحظة، وهو نفسه المجهول المعلوم الذي أحرق مخيمات الوكالة الصيفية علنا قال شهود العيان، "إن الفاعلين بالعشرات ولم يتم كشف أي منهم حتى الآن"، وهو المجهول المعلوم الذي اقتحم المؤسسات غير الحكومية ليلا ولا زال التحقيق مستمرا وهو نفسه المجهول المعلوم الذي أحرق المركز الثقافي الفرنسي وقيدت أيضا ضد مجهول أراهن أنه لن يتم اكتشافه. إنه الفلتان المنظم يضرب من جديد وإن لم يختف خلال السنوات الماضية بالرغم من تفاخر أجهزة الأمن القائمة بقطاع غزة بأن إنجازها الأبرز هو القضاء على ظاهرة الفلتان، وهي نفس الأجهزة التي تقف متفرجة على ما حدث ليل الجمعة الماضي ضد كوادر حركة فتح ومنصة حفل ذكرى وفاة ياسر عرفات في الكتيبة والتي لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن أهم مركز أو المربع الأمني بقطاع غزة وهو مركز أنصار.
أصابع الاتهام توجهت فور الحادث لتحميل حركة حماس المسؤولية لأن هناك جوا من التحريض مارسه بعض أعضاء وإعلاميي الحركة ضد الاحتفال وأطلقوا حملة "امنعوهم من الاحتفال" أي أنهم مهدوا للجريمة وخلقوا جوا مسموما وسط أجواء مصالحة كسيحة أصلا وكان لهذا المهرجان أن يساعد في إذابة الجليد بين الجانبين حين تحضره قيادات من حركة حماس.
ولأن الحركة موضع اتهام خاصة أن أجهزة الأمن المنتشرة في قطاع غزة تقودها كوادر حماس، ولأن الحكم بقطاع غزة هو لحركة حماس التي تركت الحكومة ولم تترك الحكم، فقد كان من السخرية تحميل حكومة الحمد الله والرئيس أبو مازن مسؤولية التفجيرات كما قال احد كوادر "حماس" وكان من الممكن أن تذهب أبعد لتطلب من الرئيس عباس ورئيس وزرائه الاستقالة لأنهما عجزا عن توفير الأمن بقطاع غزة، ولأن حركة حماس هي المسؤولة والحاكمة فهي لا زالت مسؤولة عن أرواح المواطنين وممتلكاتهم فهي المسؤولة عن اكتشاف مرتكبي الجريمة لما تملكه من إمكانيات فلا زالت تحتكر الأمن في القطاع هذا أولاً، ولأنها متهمة فإن اكتشاف هذه الجريمة هو أداة تبرئتها الوحيدة.
ليس هناك شك في نوايا حركة حماس في المصالحة وخصوصا القيادة السياسية، وليس هناك شك بنوايا الدكتور موسى أبو مرزوق الذي رفض هذه التفجيرات مطالبا الحكومة بعدم إلغاء زيارتها وتوحيد الموقف، مطالبا بالتضامن مع حركة فتح ولكنه يعرف أن الناس ينتظرون منه أن يطالب بالكشف عن الجناة، ومن يطالب أن يعد الناس وحركة فتح بتقديم الفاعلين للعدالة بسرعة فهو يمتلك ما هو أبعد من التضامن حين يتعلق الأمر بمن وصفهم الدكتور غازي حمد وهو أحد قيادات الحركة في القطاع "بالنفوس المريضة والعقول المختلة التي تبغي الفتنة" يجب البحث عنهم وعدم تركهم يوجهون هذه الضربة في مرحلة حساسة من مراحل المصالحة التي انتظرها الناس لسنوات وهي تسير بصعوبة شديدة ومهددة بالانهيار فقط تحتاج إلى قشة فما رأينا حين تكون الضربة بهذا المستوى.
إن الهدف الأبرز لهذه الجريمة هو ضرب المصالحة فهناك أعداء لها، وكانت حركة الجهاد الإسلامي تخلص إلى الاستنتاج الصحيح في تشخيصها حين قالت، إن "من قاموا بالتفجيرات الآثمة بغزة يخدمون العدو الصهيوني" وهذا دقيق حين نعرف أن إسرائيل هي الطرف الذي يقف ضد المصالحة وهذا ليس خافيا على أحد ولا شك أن هذه التفجيرات أحدثت خلخلة كبيرة وأعادت أجواء عدم الثقة بين حركتي فتح وحماس.
لقد سارعت حركة فتح بالحديث بلهجة شديدة، فقد تراجعت لغة المصالحة وحلت محلها لغة الاتهامات وهذا انتصار كبير لإسرائيل، على الجميع استدراك الموقف قبل أن ينهار كل شيء وأولهم حركة حماس التي وحدها تستطيع التحقيق هنا في غزة وتقديم الجناة كدليل على براءتها وحسن نواياها، ولا يستبعد هنا أن تكون أياد إسرائيلية دخلت على الخط سواء باسم الدين أو غيره فإن في معرفة خيوط الجريمة ما يعزز الجبهة الداخلية.
وعلى حركة فتح أن تهدأ قليلا لا أن تسارع بالانفعال، لأن الخوف على المصالحة أكبر كثيرا من الجريمة نفسها بالرغم من بشاعتها، من حقها معرفة المعتدي عليها وليس الاتهام قبل التحقيق بالرغم من الإشارات التي تدل على الجاني، وإذا كان مرتكب الجريمة يستهدف المصالحة هل علينا أن نستجيب ونحقق رغباته، بل يجب أن تدق هذه الجريمة ناقوس الخطر وتدفع الأطراف للإسراع بتطبيق المصالحة حتى لا تتكرر الجرائم، فوسيلة القضاء الوحيدة عليها هو بنظام حكم مشترك وأجهزة أمن مشتركة وأجواء غير مسممة، الجريمة كبيرة ولكن إن تعطلت المصالحة ستكون جريمة أكبر.
لا شك أن الخاسر الأكبر في هذه التفجيرات هو حركة حماس التي حاول نتنياهو الربط بينها وبين "داعش" وفي الوقت الذي يتم إنكار وجود "داعش" بغزة تأتي هذه التفجيرات الغبية لتؤكد ما يقوله نتنياهو ضد "حماس" والتي يزداد اتهامها كلما مر الوقت دون اكتشاف الفاعلين، فقد اعتاد الناس على سرعة اكتشاف من يحاول إلقاء صاروخ دون رغبتها أو من يحاول المساس بعناصرها، أما أن تدعي عجزها عن اكتشاف خمس عشرة جريمة ارتكبت في آن واحد وهذه على الأقل بحاجة إلى ثلاثين شخصا بالحد الأدنى فهل نصدق أن أمنها الداخلي الذي يعرف دبيب النمل في بيوت عناصر "فتح" لا يعرف شيئا عن أي من هؤلاء؟.
Atallah.akram@hotmail.com

203

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد