يبدو أن جوقة الردح السياسي وجدت نفسها عاطلة عن العمل بعد اتفاق المصالحة، فأرادت أن تجد لها عملاً في دهاليز السياسة المُعتمة، فعثرت على ضالتها في بعض القضايا الخلافية المؤجلة، فاتخذتها فرصةً لممارسة هوايتها المُفضّلة في فن المناكفة ومهارة المنازعة، فوجدت في إعادة إنتاج رواية (الحرب والسلام) للأديب الروسي المبدع (ليوتولستوي) عملاً يتسق وطاقتها السلبية المكتسبة طوال عهد الانقسام، مع الفارق الكبير بين الروايتين؛ فإذا كانت رواية (الحرب والسلام) لتولستوي من أجود الروايات العالمية، فإن رواية (الحرب والسلام) الفلسطينية من أردأ ما قدمته جوقة الردح السياسي للشعب الفلسطيني، وإذا كانت رواية تولستوي فيها كل معايير الحبكة الدرامية، فإن رواية الجوقة تنقصها كل معايير الحبكة الدرامية، وإذا كانت رواية تولستوي تُصّنف ضمن الأدب الواقعي الذي يصف الواقع كما هو، فإن رواية الجوقة تصنف ضمن الأدب الخيالي المُخادع البعيد عن الواقع.

 

عبارة (قرار الحرب والسلام) التي يُثيرها بعض السياسيين الفلسطينيين، ويُطالب بأن تكون من اختصاص الرئيس والقيادة الشرعية والمؤسسة الرسمية، مطلب لا غبار عليه ولا يختلف عليه اثنان لو كان الأمر متعلقاً بقرار دولة مستقلة ذات سلطة فعلية وسيادة حقيقية على إقليمها وشعبها ككل الدول المستقلة في العالم التي تحدد دساتيرها آليات اتخاذ قرار الحرب والسلام وتحصره في مؤسسات الدولة العُليا نظراً لأهميته وخطورته كالرئيس والحكومة ومجلس الشعب ومجلس الأمن القومي أو الدفاع الوطني... هذا الأمر لا ينطبق على حالتنا الفلسطينية فللأسف لسنا دولة مستقلة ذات سيادة، فلا زلنا تحت الاحتلال حسب القانون الدولي، والذي تم الاتفاق عليه في اتفاقية أوسلو وحسب نص الاتفاقية هو مجرد نقل بعض الصلاحيات من إدارة الاحتلال الإسرائيلي إلى السلطة الفلسطينية في أجزاء جغرافية معينة من الضفة والقطاع. وحتى إخلاء المستوطنات والقواعد العسكرية تحت ضغط المقاومة من قطاع غزة سمته دولة الاحتلال (إعادة الانتشار على حدود قطاع غزة) ولا زالت السيطرة الإستراتيجية والسيادة الفعلية والتحكم بالمنافذ البرية والبحرية والجوية بيد دولة الاحتلال.

 

وإذا كانت الضفة والقطاع تحت الاحتلال الإسرائيلي الفعلي وكذلك حسب القانون الدولي بغض النظر عن الكيان السياسي الذي يُدير شئون السكان تحت الاحتلال سواء كان الحكم العسكري المباشر أو الإدارة المدنية الاحتلالية في السابق، أو السلطة الوطنية الفلسطينية في الحاضر، أو حكومة دولة تحت الاحتلال في المستقبل، فإن هذا الوضع لا يُغيّر من الحقيقة شيئاً طالما أن الاحتلال موجود، فوجود الاحتلال هو الذي يحدد طبيعة العلاقة وهي المقاومة وليس الحرب، فاستخدام مصطلح الحرب في هذا السياق مفهوم مُخادع لا يتسق مع حالتنا الفلسطينية، ومفهوم المقاومة هو المفهوم الصحيح، ويؤكد ذلك أستاذ القانون الدولي في جامعة القدس الدكتور محمد فهد الشلالدة في مقابلة مع موقع الجزيرة الإلكتروني بتاريخ 22 يوليو 2014 ومما جاء فيه : « إن المقاومة تتم وفق القانون الدولي والقانون الإنساني... إن حركات التحرر تناضل ضد الاحتلال من أجل حق تقرير المصير بما يقضي أن أعمالها العسكرية تُعتبر دفاعاً عن النفس وبالتالي لها حق المقاومة بكافة الوسائل ومنها الكفاح المسلح... إن الفصائل الفلسطينية يحق لها المقاومة سواء انضمت لمنظمة التحرير الفلسطينية أو لم تنضم لها».

 

وبناء على ذلك يُمكن القول إن المقاومة لا تُمارس قرار الحرب والسلم بل تُمارس حق الدفاع عن النفس ومقاومة الاحتلال وانتزاع الحقوق الوطنية، وهو حق طبيعي وغريزة فطرية وفريضة دينية وواجب وطني، يُمارسه الفرد والجماعة والمجتمع والدولة بالطريقة المُتاحة أمامهم. فالخلط بين مفهومي: الحرب والمقاومة يؤدي إلى إحداث اللبس والارتباك في النتائج، كالتي توصلت إليها جوقة الردح السياسي فحجرت على المقاومة وجعلت قرارها محصوراً في يد المؤسسة السياسية الرسمية المحكومة بسقف أوسلو، والتي لم تتخذ قرار السلام إن جاز التعبير بطريقة الشراكة السياسية أو الإجماع الوطني أو التوافق الوطني الذي تنادي بأن يتخذ قرار الحرب بهذه الطريقة، ووقعت اتفاقية أوسلو رغم معارضة أكبر فصيلين في منظمة التحرير الفلسطينية بعد حركة فتح وهما الجبهتان الشعبية والديمقراطية وأكبر فصيلين خارج المنظمة وهما حركتا حماس والجهاد الإسلامي.

 

وهذا لا يعني أن تنفرد كل حركة أو فصيل بوضع إستراتيجية خاصة بها في إدارة الصراع مع العدو، بل الأفضل أن يُجرى حوار وطني شامل للوصول إلى توافق وطني يلتقي فيه الفلسطينيون على مشروع وطني جامع وإستراتيجية مقاومة موّحدة تضمن الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني وتؤدي إلى تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية الكُبرى. دون أن ننسى أن قرار الحرب والسلام هو بيد (إسرائيل) وليس بيد فصائل المقاومة أو مؤسسات السلطة، فدولة الاحتلال هي التي تبدأ العدوان وتشن الحرب دائماً، بل إن قرار الحرب قد اتخذته (إسرائيل) منذ لحظة إعلان دولتها عام 1948 ولا زالت تشن الحرب الدائمة على الشعب الفلسطيني في صورها المتعددة: احتلالاً وحصاراً واستيطاناً وقتلاً وتدميراً واعتقالاً وتهجيراً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد