جاء الحديث عن تكوين التيار الثالث في ظل استمرار حالة الاستقطاب الحاد في المجتمع الفلسطيني بين حركيتي فتح و حماس ، التي تعززت عقب الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006، فقد ظهرت دعوات كثيرة تنادي بضرورة تشكيل تيار ثالث، يكون قوي وفعال وقادراً على لعب دور مؤثر في المعادلة الداخلية الفلسطينية، ويساهم في كسر حدة التنافس بين التيار الوطني والتيار الإسلامي، بما يساهم في إنجاز مشروع التحرير واقامة الدولة الفلسطينية، وتعزيز قيم المواطنة وحقوق الإنسان في المجتمع الفلسطيني.

ويعود مصطلح "التيار الثالث" إلى بداية القرن العشرين حين استخدم للإشارة إلى تيار أخر يقع بين الرأسمالية الليبرالية والنظام السوفييتي، وقد استخدم هذا المصطلح في البداية على يد مجموعات من اليمين لكن بعد الحرب العالمية الثانية أصبح جزءاً من خطاب يساري. في فترة الحرب الباردة، واستخدم هذا المصطلح على يد مثقفين من شرق أوروبا مثل الاقتصادي التشيكي Ota Sik للإشارة إلى اقتصاد اشتراكي يتجاوز الصراع بين الرأسمالية والشيوعية ، كما ارتبط المصطلح مع تجربة الأحزاب اليسارية الأوروبية التي نجحت في العودة إلى الحكم بعد فترة دامت تقريبا عقدين تمثلت بسيطرة إيديولوجية الليبرالية الجديدة.

لكن انعدام وجود معالجة واحدة حول رؤية بناء "التيار الثالث"، نتيجة  اختلاف التوجهات الأيدولوجية والفكرية  لدى الفرقاء المختلفين الداعين لتكوين هذا التيار،  أدى إلى عدم الاتفاق على العناصر الأساسية التي يمكن يتكون منها التيار الثالث على المستوى الفلسطيني، بحيث تم أحيانا إعطاء أولوية لشروط هذا المكون أو ذاك، وعدم الأخذ بالحسبان ما يراه البعض الأخر شروطا هامة في عملية التكوين، فقد رأى  البعض أن بنية "التيار الثالث" يجب أن تكون بنية مفتوحة تضم إلى جانب القوى اليسارية أحزاباً ومؤسسات ليبرالية، ومؤسسات المجتمع المدني بغض النظر عن أجندته، بل أن النطاق قد يتسع ليضم قوى من فتح و"إسلاميين متنورين"، لقيامهم بمهام يرونها حيوية بل ملحة، لكن في المقابل رفض آخرون هذا المنطلق، واعتبروا أن "التيار الثالث" في نظرهم يجب أن يؤسس بديلاً تاريخياً يسارياً، وبالتالي يتم تحديد "التيار الثالث" ضمن خانة اليسار، ويتم الطعن في الآراء التي ترى فيه مجرد تجميع لأحزاب ومؤسسات وشخصيات من خارج "فتح" و"حماس".  فاليسار المطلوب هنا، حسب وجهة النظر هذه؛ يسار جديد راديكالي حساس لقضايا المساواة والتنمية، وينطلق من العمل مع القاعدة كآلية للنهوض، فقد رأوا  فيه حاجة ملحة، للخروج من الأزمة العاصفة التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني، أثر الاصطدام الدائر بين التيار الوطني الذي تمثله "حركة فتح"، والتيار الإسلامي الذي تمثله "حركة حماس"، مع ضرورة الربط بين نشوء التيار الثالث، وبين مهام التحرر الوطني والبناء الديمقراطي، والذي يرى أن التيارين "الوطني والإسلامي" فشلا في تحقيق الأمرين معا أو أي منهما.

لكن هناك من رأى إن المشكلة ليست في التيارات السياسية الأخرى، بل المشكلة في اليسار نفسه، الذي لم يقدم النموذج الفكري والمعرفي البديل، القادر على تعديل الأوضاع في المجتمع الفلسطيني، وهنا ترى هلغى باومغرتن كيف أن حزبين رئيسيين في اليسار الفلسطيني، هما الجبهتان الشعبية والديمقراطية لم تقدما يوماً "تحليلاً طبقياً مقنعاً للحالة الفلسطينية، ينطلق من المجتمع الفلسطيني المحسوس بكل أجزائه وتبعياته. بل شكل الجدل السياسي اليومي، المرتبط بتشنج عقائدي وفكري حول بعض "البقرات المقدسة"، فكانت جل التحليلات التي قدمها اليسار الفلسطيني... وحتى اليوم، اقرب إلى الشعار الذي يدعو إلى العلمية منه إلى التحليل العلمي لتشكيلات اجتماعية أو ظروف سياسية عملية وما يترتب عليها من برامج سياسية"، فقد كان اليسار في ممارساته متسقا مع البنية الذهنية والثقافية الموروثة التي هي بنية قبل علمية على نقيض ما بشر به المنهج الجدلي. ومن هنا جاء الخطاب اليساري خطابا أيديولوجيا لا خطاباً فكراً علمياً.

 وهذا ما أدى بالمفكر عبد الإله بلقزيز إلى  القول إن إنتاج هذا التيار الهجين من بنية ذهنية وثقافية موروثة وأخرى مستوردة كما هي دون فحص أو تبيئة، لم يكن أكثر من جملة من العاهات ألقت بذيولها السلبية والكابحة على مسار مشروع اليسار الوطني التقدمي، بل نالت منه، حتى من صدقية مشروعها السياسي أمام جمهورها الداخلي قبل جمهورها الاجتماعي، والنتيجة كانت سقوطا مدويا، ذلك أن البنى "الحديثة" التي جهد اليسار في بنائها وانحاز إليها من قبيل الاتحادات والنقابات والمسارح وحلقات النقاش، كانت هشه ضعيفة، فهي لم تكن في قلب الواقع وإلى جانب الثقافة الأصلية، بل مالت إلى الثقافة "الوافدة" فارتبكت أركان اليسار وتقوضت لصالح الحركات الدينية الأصولية التي شكلت "ردة فعل للتحديات الخارجية والداخلية" كما يقول حليم بركات في كتابه المجتمع العربي المعاصر.

ومع الإصرار على رفض المقاربة الداخلية في معالجة أزمة اليسار، دفع البعض بكل قوة، لتكوين التيار الثالث، "تيار الخلاص" من الأزمة الحالية التي تسببت بها التيارات الأخرى، وكان هذا التيار المطلوب تأسيسه على أنقاض التيارات الأخرى مطالب بتقدم رؤية مختلفة لما هو مطروح، فيما يتعلق بشكل النظام السياسي والعلاقة مع إسرائيل، وأساليب المقاومة، كما أن على الأحزاب والقوى المرشحة لتكوينه أن تراجع تجربتها بأسلوب نقدي، وتعيد تحديد رؤيتها للحل السياسي والمشروع الاجتماعي والاقتصادي. وبذلك فإن "التيار الثالث" ليس مجرد تجميع كمي لمجموعة من الأحزاب والمؤسسات، بقدر ما يشكل بديلاً تاريخياً للتيارات الأخرى، أو على الأقل منافس لها " في حين أن البعض الأخر كان يعتقد بضرورة وجود "التيار الثالث"، كهدف على الأقل آني، خاصة وأن الصراع بين قطبي النظام السياسي الفلسطيني الرئيسيين وصل لمرحلة الاقتتال بالسلاح، ناهيك عن الأيمان "بـالتيار الثالث" كرصيد لقيم الحرية والديمقراطية، بكونه نقيضاً للقيم الدينية والمحافظة وما تنطوي عليه من قيم الاستبدادية، وهذا ما يمنح شرعية لوجود مزيد من الأبحاث والدراسات، بما في ذلك إمكانية إنشاء مركز سياسات think-tank  policy center/: يمكن أن يقدم الدعم والاستشارة للعناصر المفترض أن تشكل "التيار الثالث".

 

ولضمان سرعة تشكيل هذا التيار تم استخدام أسلوب الهجوم خير وسيلة للدفاع، بمعني تجريم الموجود والقائم، والتقليل من شأنه وإنجازاته، وتشوية رموزه، ومشروعه السياسي، واعتباره أحد أسباب الأزمة القائمة، وجزء من المشكلة وليس جزء من الحل، ومن هنا بدأت عملية تشوية الحقائق والطعن في أوسلو وإنجازاته، مع استغلال الانقسام بين غزة والضفة كدليل قوي للبناء عليه في تشوية الطرفين، مع التركيز على التيار الوطني باعتباره التيار الهش الضعيف، القابل لتلقي الضربات، خاصة إن التيار الإسلامي قاعدته الجماهيرية صماء "لا تقرأ" وغير مهتمة بالمؤتمرات والندوات ومنشغلة في بناء دولتها تحت الأرض.

 

لا شك أن التيار الثالث بما يحمله من تراث فكري، بدأ أحياناً في أعين العديدين بمثابة رؤية سياسية جديدة، تحمل الخلاص الوحيد لحالة الاستقطاب الحاد في الحالة الفلسطينية، وكقوة سياسية تعيد ربط النضال الفلسطيني بالنضال العالمي المناهض للعسكرة والحرب والهيمنة الاستعمارية والاقتصادية الجديدة، لكن استخدام أسلوب تدمير الأخرين لسرعة بناء هذا التيار، بدل استخدام أسلوب تراكم الخبرات، يضع هذا التيار ومنظريه ومؤسساته على المحك، ويجعل الكثيرين وأنا وأحدهم يتسأل، إلى أي مدى أثرت الخلفية السياسة والفكرية لهذا التيار على انتاجه وأفكاره والمعرفي ؟ وهل هذا التيار قابل للتكوين في ظل هذه المعطيات؟ أم هو مجرد سراب في رحلة البحث عن الذات؟

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد