كم كنتُ أودُّ أن يكون هناك مقياسٌ لمعرفة مستوى حياة المعلم العربي، يماثل المقياس الدولي الذي يرصد جوهر التربية والتعليم، ومحتوى المناهج، وطرق وأساليب التعليم، وكفاءة المدرسين وقدراتهم، وآليات احترامهم وتقديرهم.
اعتمدتْ دولُ العالم الفقيرة والضعيفة المقياس الكمي العددي فقط، ففي بداية كل عام مدرسي، تنشر تلك الدولُ عَددَ الطلاب والموظفين، وعدد الغرف الدراسية، وعدد المعلمين، وعدد المدارس! هذا المقياسُ هدفه كتابة الأرقام المجردة في لوحة إعلانات المسؤولين، لغرض الدعاية للنظام الحاكم.
إنَّ مقاييس دول العالم المتقدمة تختلف عن مقاييس الدول (النائمة)! فمقاييس دول التنمية الاقتصادية (OECD) ترصد حالة المناهج، وجودتها، وملاءمتها للتقدم العلمي، وترصد التفوق في مواد التميُّز، كالرياضيات، والفيزياء، واللغات، وترصدُ أيضا، مستوى المعلمين، ومرتباتهم، وتضع جدولاً لترتيب الدول في مجالات تفوقها، وفشلها.
على ضوءِ هذه المقاييس، تقوم الدولُ بتصحيح مسارها التعليمي لتتمكن من اللحاق والمنافسة على ريادة العالم، لغرض المشاركة في النهضة العالمية، واقتسام الربح الناتج عن ذلك.
كمثال فقط على مقاييس الدول المتقدمة، إليكم أسماء الدول العشر الأولى، التي تُعطي المدرسين أعلى المرتبات بالترتيب:
"لكسمبورغ - سويسرا - ألمانيا - كوريا - أميركا - أستراليا - هولندا - كندا - إيرلندا - اليابان".
تمنح دولة، لكسمبورغ مدرسَ التعليم الثانوي الجديد، وفق تقرير OECD، 79,000 $ في العام.
أما المدرس ذو خبرةٍ تتجاوز عشر سنوات، فيصل مرتبُه إلى 137,000$ في العام!
كما أن مرتبات مدرسي المدارس الخاصة الأميركية أعلى من مرتبات المدرسين في المدارس الحكومية!
مائة وسبعة وثلاثون ألف دولار في العام، هو ثمرة جهد المدرس المجتهد، المُنتج، لأنه هو المسؤول عن إبداعات العقول، فهو مكتشفها، وموجهها.
إذن، فهو قائدُ عربة التقدم والرقي، وليس موظفا حكوميا، وجنديا عسكريا، يتولَّى تطويع الأجيال، وكسر شوكتهم، وقتل إبداعاتهم، يعلمهم، أناشيد الحاكم، يقيس كفاءتهم بحفظ أغاني الإذعان، والولاء، والطاعة، ويُكرم النابغين منهم حسبَ سعة محفوظاتهم، وليس قدراتهم العقلية وإبداعاتهم!
مدرسونا البائسون يُضطرون أن يكونوا في الصباح معلمين مثاليين، أما في المساء، فإن كثيرين منهم يعملون في مهنٍ أخرى، لتعويض النقص في مرتباتهم، يعملون سائقي سيارات، وبائعين، وسماسرة، وأكثرهم يفتتحون دكاكينَ للدروس الخصوصية، حتى يتمكنوا من الحصول على الحد الأدنى من الحياة.
إن إذلالهم لغرض تطويعِ الأجيال، وتسهيل قيادتهم، هو أحد الأسباب الرئيسة لهزائمنا، ونكباتنا، وتأخرنا، وأمراضنا الاجتماعية.
قال جبران خليل جبران: عن المعلم الذي يستحقُّ لقَبَه "أيها المعلم سنكون خيوطا تنسجنا في نولك ثوبا".
قال المفكر، أحمد أمين: "المعلم  ناسكٌ انقطع لخدمة العلم، يجب تقديره، كما يُقدَّرُ ويُحترم الناسك للعبادة".
سئل داهية ألمانيا بسمارك عن سبب انتصاره في حروبه السبعينية، ضد فرنسا، وتوحيد ألمانيا 1870م فقال: "انتصرنا بمعلم المدرسة!!"
سأظل أردد قولا، لم يحفظه العربُ بعد وهو:
"إن مقدار ما تمنحونه للمعلمين من مرتبات ومكافآت، إنما تمنحونه لأبنائكم، فهو الذي يُحدد مستقبلهم ومستقبلكم".

 

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد