أثار الاستفتاء الذي جرى في إقليم كردستان العراقي الكثير من النقاش في المحيط وفي السياسة الدولية، ومن المؤكد أنه سيثير المزيد من تلك الردود والتفاعلات، خاصة من تلك الدول التي تقع الأقاليم الكردية ضمن حدودها. والمؤكد أن حقوق الشعوب في الاستقلال وإدارة شؤون حياتها لا يمكن أن يكون موضع جدل بين شعب يعاني من الاحتلال ويسعى للحرية، مثل الشعب الفلسطيني، بعيداً ربما عن المشاعر القومية التي يمكن أن تجعل المرء يقف محتاراً. وهذه قضية أخرى. 
في مكان آخر بالعالم، يصارع أناس آخرون من أجل الانفصال والبحث عن استقلال خاص بهم. ففي إقليم كاتالونيا ثمة توجهات انفصالية عالية رغم معارضة مدريد والقضاء الإسباني لإجراء استفتاء هناك وسيطرة الشرطة على المدارس حيث يتم الاستفتاء. والصدامات التي جرت، أمس، بين الشرطة والمواطنين تعكس روح هذه الصراع. وأيضاً ثمة مواقف متعارضة حول ذلك يمكن أن تنتاب المرء منا، خاصة أن أسبانيا بلد صديق وعلاقات العرب التاريخية مع الأسبان الذين كان لهم دور مهم في نهضتها في زمن الظلام الأوروبي في القرون الوسطى، إلى جانب وقوف الأحرار الكاتالونيين مع النضال التحرري الذي خاضه الفلسطينيون ويخوضونه حتى اليوم. 
أوروبا مليئة بمثل هذه النزعات الانفصالية. ففي أسبانيا أيضاً ثمة إقليم الباسك الذي يسعى سكانه إلى الانفصال عن أسبانيا وكانوا خاضوا حروباً ومقاومة عنيفة من أجل تحقيق ذلك لم تكلل بالنجاح حتى الآن، قبل أن تقوم حركة «هيري باتاسونا»، التي قادت النضال من أجل الانفصال بحل نفسها عام 2013. لكن أيضاً هذا لم يوقف النزعات الانفصالية ولم يقض عليها، إذ إن على من شاء تنامي المطالب الكاتالونية ونجاح الجهود هناك في إعلان الدولة الخاصة بهم في الإقليم، عليه أن يعاود تغذية المطالب الباسكية في بلباو.
لا بد من أن المطالب الإسكتلندية ما زالت حاضرة، خاصة مع تصويت المواطنين في بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي العام الماضي، وهو الأمر الذي يرفضونه في أدنبرة عاصمة إسكتلندا. صحيح أن هناك عداء خفي بين الوطنية الإسكتلندية وبين الهيمنة البريطانية، وصحيح أن السرديات الإسكتلندية تصور ما حدث على أنه احتلال ومصادرة للهوية الوطنية، لكن رغم ذلك ظلت المطالبات بالانفصال هادئة وفي بعض الأحيان نحت جهة القانون والنقاش. لكن في المحصلة ثمة إقليم إسكتلندي وبرلمان خاص. تذكرون أن إسكتلندا وويلز تلعبان في كأس العالم كدول كما في الدوريات الأوروبية. 
يمكن تتبع عشرات الحركات الانفصالية في العالم التي يكون نصيب أوروبا فيها ملحوظاً، خاصة في جزر فارو التابعة للدنمارك، التي تتمتع بحكم ذاتي، وقد نسمع بها دولة قريباً بعد منحها الاستقلال. وإقليم الفلاندرز في بلجيكا وجزيرة كورسيكا (موطن نابليون) في فرنسا وإقليم البروتون. كما أن أوروبا الشرقية كانت شهدت موجة تفكك وتشظي كبيرة عقب انهيار جدار برلين، ودارت حروب أهلية دامية، خاصة في البلقان، قادت إلى ظهور جمهوريات قديمة وتنامي العداء والصراع القومي بين الجيران الذين كانت تضمهم دولة واحدة في السابق.
كان هذا التفكك ردة فعل على ضياع الحريات ومصادرتها خلال فترة الحرب البادرة وبناء الدولة في أوروبا الشرقية على النموذج الستاليني. وربما أن محاولات سابقة تمت لتفكيك هيمنة الدولة، مثلما حدث في ربيع براغ في نهاية الستينيات لكنها لم تثمر. عموماً ما نرمي إليه أنه يمكن فهم نزعات الانفصال والتفكك التي شهدتها أوروبا الشرقية والتي تشهدها ربما المنطقة العربية؛ في ظل غياب دولة المواطنين ودولة الفرد القادرة على أن تمثل كل فرد مهما اختلف مع الأغلبية، ولا تصادر الهوية المحلية وتحافظ على التنوع مهما كان بعيداً عن المركز، فعلاقة الأطراف مع المركز هي علاقة تكاملية لا طردية. ويظل من المجدي التفكير بالنزعات الانفصالية في دول تعيش مراحل رخاء وانتعاش، مثل الدول الأوروبية. صحيح أن ثمة غياباً للتمثيل الهوياتي وربما أن ثمة شعوراً بالظلم التاريخي في هذه الأقاليم، لكن مستويات المعيشة والحريات أكبر بكثير من تلك التي سادت في أوروبا الشرقية والتي تسود في الشرق الأوسط. ما الذي يحدث؟
ساد اعتقاد في الحقل البحثي أن الدولة الوطنية انتهت وأن ثمة نزوعاً، خاصة بعد تمظهر الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي نحو التكوينات الإقليمية التي تعلو الدولة الوطنية، التي لا بد من أن تترك المشهد لصالح تلك التكوينات والمنظمات الإقليمية. وبشكل عام، إن حالة أوروبا الغربية التي ربما كانت استثناءً، خاصة مع ذهاب آباء التكامل الأوروبي لمناطق عميقة في تجاوز المشاعر الوطنية التي ولدت العداءات منذ مطالع القرن العشرين، وقادت إلى حروب فتاكة، ولكن رغم ذلك فإن مثل تلك الأفكار انتشرت بشكل أوسع خارج أوروبا. لكن حتى في ظل مثل هذه الاعتقادات بانهيار الدولة الوطنية لصالح مثل تلك التكوينات، كان هناك من يؤكد أن الدولة الوطنية باقية ولم توجد لتزول. وعليه فإن تشكيل الاتحادات الإقليمية والمنظمات الدولية ليست إلا تتويجاً لقوة الدولة الوطنية.
ما الذي يرمي إليه هذا القول؟
ببساطة، إن المشاعر الوطنية والمطالب التمثيلية ضمن النطاق الخاص (هنا بمعنى الاستقلال) تظل موجودة دائماً ولا يمكن لها أن تنتهي. وعليه فإن المعالجات السليمة لا بد من أن تكون ضمن النطاق العام لتلبية هذه الاحتياجات مع الحفاظ على النسق العام الذي يجعل من التصادم أمراً مرفوضاً.
الدولة والمشاعر الوطنية والبحث عن التمثيل والتعبير عن التكوينات، مهما صغرت ومهما كبرت، ليست إلا تتويجاً لنزوع البشر الفردي في التعبير عن أنفسهم وملاحقة حالة الطبيعة التي جبلوا عليها، وهي في آخر المطاف ليست اعتداءً على أحد ولا مساساً بحقوق الآخرين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد