من المؤكد أن هناك زخماً واضحاً بدأت تشهده القضية الفلسطينية خلال الفترة الماضية بداية بما حققته مصر مؤخراً من تقدم كبير يهيئ المجال لحل مشكلة الانقسام الفلسطيني - الفلسطينى ومروراً باجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التى ركزت فيها مصر بصفة أساسية وبعض الأطراف الأخرى على هذه القضية المحورية، وبالتالى يفرض علينا هذا الزخم أن ننتقل من مرحلة الجمود السياسى إلى مرحلة التمهيد الإيجابى وصولاً لمرحلة الإنجاز الحقيقى، وكلها مراحل متتالية، تعتمد على وحدة الموقف الفلسطينى وقوة الموقف العربى وقدرته على استخدام كافة أدواته الممكنة.
هناك سؤال حيوى يفرض نفسه بقوة ويحتاج إلى إجابة قاطعة ونحن نعالج قضية السلام العربى مع إسرائيل وهو هل يمتلك كل من الجانبين العربى والإسرائيلى رؤية متكاملة لحل القضية الفلسطينية بغض النظر عن طبيعة هذه الرؤية؟، وهل هذه الرؤية قابلة للتطبيق مهما كانت مكوناتها؟، وهل هناك آليات يمكن بلورتها حتى تتحول تلك الرؤية من مجرد مبادئ عامة إلى واقع يتم تنفيذه على الأرض؟
قبل التعرض للإجابة عن هذا التساؤل، هناك محددان رئيسيان أود الإشارة إليهما:
المحدد الأول أن هناك اهتمامات أخرى صعدت إلى أولويات السياسة الإسرائيلية فى المنطقة ليس من بينها حل القضية الفلسطينية، وبالتالى فإن نجاح الدول العربية فى إعادة القضية إلى دائرة الضوء يعد نجاحاً كبيراً، لاسيما أن هذا النجاح جاء فى وقت مازالت فيه المنطقة العربية تمر بمرحلة عدم استقرار.
والمحدد الثانى أننا نتعامل مع حكومة إسرائيلية شديدة التطرف لا تعترف بأن الدولة الفلسطينية المستقلة أمر قابل للتحقيق تحت أية ظروف، وفى رأيى أن هذا الموقف الإسرائيلى رغم صعوبته، إلا أنه لا يجب أن يكون عائقاً أمام تحركنا ومحاولتنا دحض هذا الفكر المتطرف، وإلا نكون قد استسلمنا له وشجعناه على الاستمرار.
نأتى إلى الموقف الإسرائيلى الذى يشير بوضوح ودون مواربة إلى أن مبدأ السلام مع الدول العربية استناداً على حل القضية الفلسطينية قد أسقطته حكومة نتنياهو من أجندتها السياسية بحثاً عن قضايا أخرى أكثر إلحاحاً تؤدى إلى تعاون أو تنسيق أو تقارب عربى إسرائيلى دون أن تدفع تل أبيب ثمن السلام الذى يجب عليها أن تدفعه، وهو الأمر الذى سعى نتنياهو إلى التعبير عنه فى أكثر من مناسبة بأن علاقات إسرائيل العربية خلال المرحلة الحالية تعد إيجابية للغاية.
وفى نفس الوقت حرصت إسرائيل على ألا تعلن على الأقل أن لديها بلورة متكاملة لرؤيتها لحل القضية الفلسطينية، حتى إن كانت رؤية شديدة التطرف وهو الأمر الذى يتماشى مع مصالحها مادامت لا توجد عليها أية ضغوط لإعلان مواقفها، ومادامت المفاوضات السياسية متوقفة، ولا يوجد ما يدفع إسرائيل إلى أن تكشف عن رؤاها إزاء قضايا الحل النهائى مثل الحدود والأمن والمستوطنات، الأمر الذى يؤكد أن إسرائيل تحرص بكل الوسائل على إغلاق الطريق أمام استئناف المفاوضات مرة أخرى.
إلا أن إسرائيل تحاول بين الحين والآخر تسويق بعض المواقف التى تعبر بصدق عن طبيعة وأفكار حكومتها الحالية والتى لن تنتج لنا فى النهاية – إذا ما سلمنا بها - إلا شبه دولة فلسطينية غير مترابطة وغير متواصلة الأطراف ولا تملك سيادتها بنفسها وهو الأمر الذى نجده فيما يصرحt به المسئولون الرسميون الإسرائيليون بأنه لا عودة مطلقاً إلى حدود ١٩٦٧ وأنه سيتم ضم الكتل الاستيطانية الكبرى فى الضفة الغربية، وستبقى قوات الجيش الإسرائيلى فى منطقة غور الأردن، ولن يتم تقسيم مدينة القدس مرة أخرى، ولاشك أن هذه المواقف تشكل عقبات كبيرة أمام المفاوضات فى حالة استئنافها؛ ولكن يجب علينا أن نعلم أن هذه هى طبيعة المفاوضات التى ستكون شديدة الصعوبة والتعقيد.
أما الموقف العربى فلا يمكن إلا أن أقول إنه على الرغم من كافة المشكلات والقيود والخلافات المحيطة به، إلا أنه يمتلك ما يمكن أن أسميه بالفكر شديد التقدم والواقعية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وهو مبادرة السلام العربية المطروحة فى قمة بيروت ٢٠٠٢ (الأرض مقابل السلام)، ولا يستطيع أى مراقب موضوعى للأحداث؛ إلا أن يقف أمام هذه المبادرة مشدوهاً ليتساءل كيف يمتلك العرب هذا الفكر دون القدرة على تنفيذه أو على الأقل تعريف المجتمع الإسرائيلى والمجتمع الدولى به طوال هذه السنوات الخمس عشرة؟، ومازلت أدعو كل المتابعين للملف الفلسطينى الإسرائيلى إلى التعمق فى قراءة هذه المبادرة التى يجب ألا تتجمد وألا نسمح لأى طرف بوأدها.
إذن نحن حالياً أمام موقفين رئيسيين متعارضين تماماً الأول وهو الموقف الإسرائيلى الذى يحجم متعمداً عن الدخول فى عملية السلام ولا يمتلك أية رؤية متكاملة فى هذا الشأن، والثانى وهو موقف فلسطينى يبحث عن حقوقه المشروعة، ويمتلك فى إطار محيطه العربى رؤية شاملة للتسوية السياسية، إذن فالقضية هنا كيف يمكن إحداث التقارب المطلوب بين الموقفين، وكيف يمكن أن نجمعهما على مائدة مفاوضات واحدة، وكيف نجعل السلام المستحيل قريباً بل وواقعاً نراه بأعيننا؟
وبالتالى هناك مسئوليات تقع على كل من الطرفين الرئيسيين فى الصراع وعلى بعض الدول القادرة على المساعدة والتأثير وفى مقدمتها مصر والولايات المتحدة، وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالى:
أولاً: الجانب الفلسطينى
أهمية قيام الجانب الفلسطينى باستثمار قوة الدفع التى تولدت عقب نجاح مصر فى إيجاد مناخ إيجابى يسمح بتحقيق المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية والبدء على الفور بعقد الاجتماعات، التى يجب أن تؤدى إلى الهدف المنشود منها وهو إنهاء الانقسام الفلسطينى.
إعلان السلطة الفلسطينية إعادة تمسكها بمبادرة السلام العربية فى إطار الموقف العربى وما سوف تتم بلورته من آليات واقعية قد تشهد بعض أوجه المرونة دون المساس بأية ثوابت معروفة.
إعداد الجانب الفلسطينى كافة الملفات المرتبطة بقضايا الوضع النهائى التى سوف يتم بحثها عند استئناف المفاوضات (الأرض – الحدود – المستوطنات – المياه – الأسرى) حتى يكون المفاوض الفلسطينى مستعداً للمعركة السياسية القادمة.
ثانياً: الجانب الإسرائيلى
لابد من أن تصل إسرائيل إلى قناعة بأن كافة مساعيها للاندماج فى المحيط العربى لن يكتب لها النجاح دون التوصل أولاً إلى حل للقضية الفلسطينية، وأن موافقتها العلنية حتى المشروطة على المبادرة العربية للسلام يعد أمراً ضرورياً للاستقرار فى المنطقة على أن يتم حسم كافة القضايا الخلافية من خلال المفاوضات.
ثالثاً: مصر
لا يمكن لأية عملية سلام أن يكتب لها النجاح دون أن يكون لمصر دور أساسي فيها لأسباب موضوعية من أهمها أن القضية الفلسطينية هى قضية أمن قومى مصري، كما أن مصر تتمتع بعلاقات متميزة مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية.
أهمية بدء مصر الإعداد لفترة استئناف المفاوضات من خلال القيام بالتواصل مع القوى والأطراف المختلفة للوصول إلى أنسب وسيلة تسمح بانطلاق المباحثات السياسية فى أقرب فرصة، ولاشك أن خبرة مصر تؤهلها لتنفيذ هذه المهام على الوجه الأكمل.
إمكانية الترتيب لأن تكون عملية انطلاق المفاوضات فى قمة سلام عالمية تعقد فى مدينة شرم الشيخ يحضرها أهم قادة العالم، على أن تبدأ فى أعقابها المفاوضات بالشكل الذى يتفق عليه الأطراف.
رابعاً: الدول العربية
أهمية أن تعقد الدول العربية اجتماعاً فى الفترة القريبة المقبلة على المستوى الذى تحدده تعيد فيه التزامها بمبادرة السلام العربية ليس هذا فقط، وإنما تحدد آليات التنفيذ بالصورة الواقعية حتى تكون لدينا مبادرة متكاملة من كافة الجوانب.
ضرورة التفكير فى أسلوب يسمح بأن تصل المبادرة العربية إلى داخل المجتمع الإسرائيلى كله بأطيافه المختلفة، حتى يعلم هذا المجتمع أن هناك رؤية عربية جاهزة تقبل بالسلام الشامل مع إسرائيل، وأن حكومته هى الرافضة لتنفيذ هذه المبادرة؛ وأملاً فى أن يمارس بعض الضغوط على حكومته.
خامساً: الولايات المتحدة
من المؤكد أن الولايات المتحدة تمثل العامل الرئيسى الذى يقف وراء إنجازات عملية السلام فى الشرق الأوسط ابتداء من معاهدة السلام مع مصر ومروراً باتفاقية أوسلو وانتهاء بمعاهدة السلام مع الأردن.
أن أهم ما يميز الموقف الأمريكى هو علاقاته الاسترتيجية مع إسرائيل التى لا يمكن لها أن تتحرك فى عملية السلام بعيداً عن الدور الأمريكى.
أن التحركات التى قامت بها إدارة الرئيس ترامب مع كل من الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى ومازالت متواصلة حتى الآن، تعد فى قمة الأهمية؛ ولكن من الضرورى أن تصل كافة هذه التحركات فى مرحلة قريبة قادمة إلى تكوين للرؤية الأمريكية التى تسمح باستئناف المفاوضات، وأرجو ألا يطول هذا الأمر عن نهاية أكتوبر القادم.
أدوار أخرى مساعدة
من الضرورى أن تكون كافة الأدوار الأخرى مساعدة وداعمة لعملية السلام وأن يسمح لها بهامش مساحة مقبول للتحرك دون طرح أفكار جديدة (روسيا – الدول الأوربية – المنظمات الدولية) وهو ما سيكون عنصراً قوياً لإعطاء الزخم المطلوب للمفاوضات.
فى ضوء ما سبق فإن الزخم الحالى للقضية الفلسطينية لا يجب أن ينتهى دون استثماره على الأقل لبدء المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، كما أننا يجب أن تكون لدينا قناعة بأن إسرائيل لن تتجه إلى السلام طواعية، ولن تحاول استئناف المفاوضات إلا إذا فرضناها عليها وبدأنا مرحلة جديدة من الضغط وهجوم السلام على الحكومة وعلى المجتمع؛ أملاً فى توصيل رسالة واضحة إلى الناخب الإسرائيلى بأن أمنه واستقراره يتطلب أن تتجه حكومته إلى إعطاء الشعب الفلسطينى حقوقه المشروعة، فى أن يعيش فى دولة مستقلة بجوار دولة إسرائيل، وأرجو ألا ينقضى عام ٢٠١٧، إلا وتكون المفاوضات قد تم استئنافها، بل وحققت بعض التقدم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية