أكثر الأسئلة شيوعاً في الشارع، والتي يمكن أن تسمعها في كل مكان: هل سيتصالحون فعلاً هذه المرة؟ حالة الشك التي مردها الحالات الفاشلة لليقين قبل ذلك. حالة عدم الثقة بالمستقبل التي كونتها كل عثرات الماضي. والسؤال بحد ذاته يكشف أيضاً عن القلق الذي يسود الشارع الخائف من الإفراط في التفاؤل. لا بد من أن المصالحة جدية هذه المرة، أو من المؤكد أنها جدية هذه المرة. أحد عشر عاماً من الخلاف والاقتتال والصراخ والآهات والعذابات هل يمكن لها أن تنهى هكذا فجأة؟ كأن ثمة من استيقظ من النوم ليكتشف أن ما حدث في حزيران 2007 جريمة شنعاء أو أن ما تلا ذلك كارثة وطنية يجب وضع حد لها.
هل يمكن توصيف الحال كذلك؟ لأنه دون تطبيب جراح الماضي لا يمكن أن نمضي في طريق المستقبل. ودون البحث في سبب الألم الدائم لا يمكن لأي مُسّكن أن يخفف من عذابات المريض. عموماً فإن ثمة شعوراً خفياً بأن الأمور تسير في الطريق السليمة. لا أحد يعرف سبب هذا الشعور، وإذا ما كان صحيحاً أم لا، لكن المؤكد أن طبيعة ما يجري، خاصة الإعلان غير المتوقع عن حل اللجنة الإدارية، يعطي هذا التفاؤل شرعيته بالنسبة للمواطن العادي. المواطن الذي لا يعرف ما هي اللجنة الإدارية ولا يعرف كيف تحولت بين ليلة وضحاها إلى الخنجر الأكثر حدة في خاصرة الوحدة الوطنية. فالانقسام متشعب المؤسسات، كثير المنتفعين، ومتعدد النتائج. الانقسام الذي أفرز طبقات جديدة (ليس بالمفهوم الماركسي الطبقي أكيد) والأثرياء الجدد، والأوليغاركا الأمنية والعسكرية وأصحاب النفوذ والمصالح. الانقسام الذي نجح في تحويل حياة الناس إلى جحيم، وتحويل غزة إلى مقبرة للأحلام. هذا الشرير الأعظم، أو رأس الشر، سينتهي فجأة هكذا. هل ثمة ما تغير؟ هل ثمة ما يجعل مثل هذه النهاية أمراً محققاً؟ السؤال الكبير الذي يجعل الدهشة والحيرة تسيطران على الشارع.
يمكن للساسة أن يقولوا العبارات الكبيرة، ويمكن لهم أن يتبجحوا بالمصلحة الوطنية (كأنهم اكتشفوها فجأة) ويمكن لهم أن يعللوا ويفسروا ويشرحوا التحولات والتغيرات، كما يمكن للكتبة وأصحاب الأقلام الباهتة أن يقفوا خلف الشاشات ليتحدثوا بتأنق وتكلف عن التطورات الجديدة، وعن تحول المصالح واللاعبين المختلفين، ويمكن لهم أن يفرطوا بالتشدق بسيناريوهات لا تستند إلا على وعي متخيل، ولا لوم عليهم إن فشلت كالعادة، لأنهم في نشرة الأخبار والبرامج القادمة يمكن لهم أن يبتدعوا غيرها. ويمكن لنشرات الأخبار أن تواصل عرضها للتقارير والتحليلات وتتحدث عن تسريبات وتوضيحات عجز غيرها عن الإتيان بها، ويمكن لها أن تواصل تقديم فقرات مختلفة تغطي جوانب ما يجري بطرق متعددة. ويمكن للنشطاء الشباب أن يستعيدوا همتهم في الخروج للشارع للضغط على قوى الانقسام من أجل جعل ما يجري جدياً هذه المرة، فهم مثل الشارع لا يصدقون، ويمكن لهم أن يواصلوا الخروج للشارع وللميادين مطالبين بنهاية الانقسام. ثمة ملايين "الممكنات" التي تشرح فقط ما يجري، أو تكشف عن الجزء الذي نراه أو يمكن لنا أن نراه مما يجري، لكنها لا تقول شيئاً عن الحقيقة.
المواطن لا يهمه كل ذلك. قد يجلس لساعات أمام شاشات التلفاز، وينصت باهتمام كمن يستمع لنص مقدس، للتصريحات والتحليلات، وقد يمضي الشبان ليلهم على مواقع التواصل وصفحات الإنترنت يبحثون عن خبر هنا أو تسريب هناك. وهذا حق، فأنت لا يمكن لك أن تهرب من الشيء حين يتعلق الأمر بمستقبلك. وعليهم كمواطنين صالحين أن يفعلوا ذلك، وهم يواصلون فعل ذلك بدافع غريزي.
لكن هل يهمهم هذا فعلاً؟ بمعني هل تهمهم تصريحات الساسة وشواربهم وأوداجهم المتنفخة وهم يقتبسون من الكتاب المقدس ومن الأحاديث الشريفة ومن مآثر العرب ليبرهنوا على "أن الصلح خير" كما تقول الأغنية، أو هل يهمهم أساساً أي شيء مما يقول الساسة عن الوطن الذي لعبوا به كرة قدم بين أرجلهم حين سحلت جثث الشهداء في الطرقات، وهل يعنيهم ما يقصدون حقاً بكلمة وطن ومستقبل وأحلام واتفاق. عبارات لا تعني الكثير بالنسبة للمواطن حين يسمعها الآن في هذا السياق. لأنها تعني حياته في سياقات مختلفة. هل يعني المواطن ما يقوله المحللون وما يتشدق به المتفيهقون وهم يقدمون أنفسهم عرافي الزمن القادم! لا يعنيهم الأمر كثيراً، إذ إنهم سيقعون ضحايا البلاغة الزائفة والثقافة المستوردة في الكثير من الأحيان وهم يكتوون بسماع كل ذلك.
لا تعنيهم إلا المصالحة الحقيقية. يعنيهم أن ينتهي هذا الحديث وأن يجدوا أنفسهم يعيشون في زمن المصالحة. الزمن المفقود تحت بساطير الانقسام. تعنيهم المصالحة إذا صلحت، المصالحة التي ت فتح لهم المعابر، وتخفف الحصار عنهم. المصالحة التي تأتي لهم بالكهرباء وجرة الغاز والماء في خزانات بيوتهم، المصالحة التي تعيد للبحر زرقته بعد أن لوثته مياه المجاري (مرة أخرى لا بد من محاكمة مَن فعل ذلك)، المصالحة التي تُمكّن الطالب من الالتحاق بجامعته، وتعيد للمستشفيات حيويتها، وللمدارس أناقتها. المصالحة التي تفتح الفرص للشباب من أجل حياة أفضل. وتوفر لهم فرص عمل بعد أن تكدس الخريجون ولم يعد ثمة مكان للعمل. المصالحة التي ترصف الشوارع، وتجدد المؤسسات وتعيد الحياة للشارع الذي بدا هزيلاً من شدة المآسي.
الناس تعنيها المصالحة التي تجعل حياتهم صالحة، وتعيد لهم شهوة الحياة ذاتها. المصالحة التي تجعل النظر للمستقبل أمراً ممكناً. وتجعل التفكير في الغد أمراً محبباً وليس مصدر نكد وكدر. المصالحة إذا صلحت، هي تلك المصالحة التي تصلح مع الناس ولا تصلح مع الساسة. فالناس لم يعد يعنيها الكلام الكبير. فقط يعنيها ما قاله رب العزة عن مصدر الحكم وسر شرعيته: "وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية