أعلنت حركة حماس فجر الأحد الماضي حل اللجنة الإدارية العُليا في قطاع غزة ، وتعهدت بالسماح لحكومة الحمد الله بممارسة مهامها في قطاع غزة، إيذاناً بانطلاق قطار المصالحة حسب اتفاق القاهرة عام 2011. ورغم جدية ما تم بين حركتي فتح وحماس برعاية المخابرات المصرية في القاهرة إلا أن غالبية جمهور الشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة لم يتعامل مع هذه الأخبار المُبشّرة بجدية، وفي أحسن الأحوال تعامل معها بتفاؤل حَذِر، أو تفاؤل يحوي في باطنه التشاؤم، أو بشكٍ من إمكانية وصول قطار المصالحة إلى محطة الوحدة الوطنية. وهذا غير نابع من حبٍ للتشاؤم والتطير أو ميلٍ للشؤم والنحس. بقدر ما هو حَذِر من الإفراط في التفاؤل مبني على أسباب منطقية وتجارب واقعية سيتم تناولها فيما يلي من السطور.
أثبتت التجارب السابقة لاتفاقيات المصالحة العديدة التي تم توقيعها في مكة والدوحة والقاهرة وغزة وغيرها أن المشكلة ليست في توقيع الاتفاق بل في تطبيقه على الأرض فكل مرة كان التطبيق يصطدم بانعدام الإرادة السياسية لإنهاء الانقسام، ويصطدم بمراكز القوى المستفيدة من الانقسام لدى الطرفين، ويصطدم بالآف الشياطين المتربصة الكامنة في أزقة التفاصيل ومتاهات التأويل، ويصطدم بالشيطان الأكبر الحاضر الغائب في كل اتفاق وهو دولة الاحتلال إضافة لمصالح الدول الإقليمية وإرادة الدول الكبرى المعنية... فتكرار اتفاقيات المصالحة تم تعرّضها لانتكاسة عند التطبيق في كل مرة جعل الشعب يفقد الثقة في وصول المصالحة إلى بر الأمان، كما فقد أهل القرية الثقة في مصداقية الراعي في قصة الراعي والذئب. أو على الأقل يستقبل كل اتفاق بشيءٍ من الشك حتى يرى المصالحة واقعاً ملموساً على الأرض. وهذا ما يجعل التفاؤل حذر.
بعد أكثر من عقد من الزمان على وجود الانقسام الفلسطيني لم يعد مجرد انقسام في إدارة السلطة فقط، بل أصبح الإنقسام عميقاً طال الكثير من جوانب حياتنا السياسية والثقافية والنفسية، ومن أمثلة ذلك الاختلاف حول المصطلحات والمفاهيم المتعلّقة بالانقسام ابتداءً من اسمه (الانقلاب أو الحسم) وليس انتهاء بترك العمل في الوظيفة العمومية (الإضراب أو الاستنكاف). وكذلك الخلاف حول الرواية التاريخية المتناقضة للانقسام التي أصبحت رافداً إضافياً للانقسام نفسه، وكذلك ظهور بوادر الانقسام في الهوية الوطنية الفلسطينية ما بين (الهوية الغزاوية) و (الهوية الضفاوية) إضافة لتشظى الهوية الوطنية الفلسطينية ما بين فلسطيني الداخل المحتل عام 1948 وفلسطيني الخارج في المخيمات والشتات على حساب الهوية الوطنية الجامعة. إذا أضفنا إلى ذلك الانقسام السياسي والحزبي وما أحدثه من شرخ عميق في المجتمع الفلسطيني زاد من عمقه المناكفات السياسية المتقابلة والردح الإعلامي المتبادل، والتعبئة الحزبية التعصبية، والتثقيف السياسي العدائي، وشيطنة الآخر وإخراجه من الصف الوطني بتخوينه أو من الصف الإسلامي بتكفيره... نعرف كم نحتاج من الجهد الثقافي والتربوي الموازي للجهد السياسي لإزالة آثار الانقسام وتبعاته ونتائجه. ونعرف أن هذا ما يجعل التفاؤل حَذِر.
إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية مطلب شعبي ووطني يحقق المصلحة الشعبية والوطنية، وإنهاء أو تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني في غزة مطلب إنساني ووطني وأخلاقي يدعم صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه؛ ولكن ذلك يجب أن يكون مبنياً على أسسٍ تضمن فعلياً إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية بطريقة دائمة، بخلاف الأسس التي ارتكزت عليها اتفاقيات المصالحة الحالية المستندة إلى تقاسم السلطة والمحاصصة الحزبية أو إدارة الانقسام وتوزيع النفوذ، والأفضل أن يتم إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ابتداء من منظمة التحرير الفلسطينية كإطار قيادي جامع لقوى الشعب الفلسطيني، وكحاضنة للمشروع الوطني الفلسطيني الجامع، وكمحافظة على الثوابت الوطنية الفلسطينية، وكأمنية على نهج المقاومة الشاملة، وانتهاء بالسلطة الفلسطينية التي ابتلعت في جوفها منظمة التحرير الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني وأُقيمت لتؤدي وظائف مدنية وأمنية وسياسية تخدم الاحتلال وتكرّس الاستيطان، فأي اتفاق لا يُعدّل جوهرياً من وظيفة السلطة لتكون داعمةً لصمود الشعب ورافعةً للمشروع الوطني وأي اتفاق لا يُعيد النظر في مشروع أوسلو الذي أوصلنا إلى مأزق الانقسام، بل ويعيد النظر في مجمل الفكر السياسي الذي قاد إلى أوسلو سيكون اتفاقاً هشاً ومُعرّض للانتكاسة في أي وقت، وهذا ما يجعل التفاؤل حَذِر.
ولكي يكون التفاؤل بدون حَذَر لا خيار أمامنا سوى بدء حوار وطني جاد بمشاركة الكل الفلسطيني – وليس فقط حركتي فتح وحماس – للتوصل إلى خارطة طريق وطنية تخرجنا من مأزقي أوسلو والانقسام تُنهي معاناة الحياة اليومية للشعب الفلسطيني خاصة في غزة وتضع أقدامنا على بداية طريق التحرير والعودة والاستقلال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية