المؤكد أن الوجه الأبرز لتعثر جهود المصالحة هو سعى البعض إلى تجسيد مشروع غزة الذي يخشى الكثيرون من الإفصاح عنه حتى، وهم يعملون على تحقيقه. لم يكن هذا التعثر بكل تأكيد إلا نتاج الحالة السوداوية التي صبغت المشهد السياسي الفلسطيني بعد أحداث الانقلاب الدامية وما نتج عنها من انقسام في بنى وهياكل السلطة والمؤسسة، وما تلا ذلك من تهتك في النسيج الاجتماعي وتراجع في الاقتصاد. خلال كل تلك السنوات كان مشروع غزة ينمو على حساب المشروع الوطني، وكانت الوطنية الفلسطينية، بعد أن تركت واحداً من أهم مواقعها ومواطئ أقدامها في الجغرافيا، شهدت تراجعاً واضحاً، ليس في تحقيق منجزاتها التي احتدم النضال القانوني والسياسي من أجل تحقيقها، بل أيضاً في مقدرتها على تقديم نفسها ليس كمكتسب ومنجز، بل قادرة على المضي قدماً في القضاء على نتائج الانقسام.
هل بات الانقسام أكثر تجذراً من المصالح العليا؟ وهل لم يعد من الممكن للفلسطينيين أن يتغلبوا عليه؟ مع الوقت تنامت قناعات بأن الحوارات الوطنية ليست إلا عملية مفاوضات أخرى مثل تلك التي تجريها إسرائيل مع الفلسطينيين دون أن يكون ثمة نتائج معقولة أو ملموسة. وعلى الطريقة الأميركية فإن المهم ليست نتائج العملية بقدر أهمية وجودها. ضمن أشياء أخرى، عنى هذا دائماً أن يتواصل الطرفان أفضل من أن ينقطع أي حديث بينهما.
وعلى نفس المنوال، واصل الانقسام خلال كل تلك الأعوام غرس أوتاده في تربة صلبة، مثبتاً أركانه، حتى باتت دولة غزة أبعد من مجرد أحد أحلام قادة إسرائيل أو إستراتيجيها. الأمر الذي يعيد النقاش المبكر حول دوافع ما حدث في حزيران 2007 وإذا ما كان مجرد توتر ميداني بين قوة " حماس " التنفيذية وأجهزة السلطة – وهو أمر لا يصدقه إلا ساذج، أم أن ثمة سيناريو معد مسبقاً كان يجب أن يقود إلى ما حدث. وما حدث بدوره يجب أن يقود مع الزمن إلى الوضع الراهن الذي يصار خلاله للبحث عن مخرج خاص بغزة وحل يتعلق بمصيرها فقط. ولن تصبح المفارقة أن يتحقق كل ذلك، بل أن ينجو المشروع الوطني من براثن ومصائد المشروع البديل. وقد تكون إعادة قراءة ما حدث أكثر صدمة من تقبل النتائج.
فالفرقاء، خاصة على المستوى اللفظي والتناطح الإعلامي، باتوا اليوم مثلاً حلفاء، وباتوا يوقعون اتفاقيات ومصالحات ويبنون لخطط مستقبلية تعزز المشروع الذي اختلفوا عليه، وباتوا يتفقون أكثر على نتائجه. المخطئ كان الشهداء والمعذبون الذي قضوا ضحايا لهذا الجشع وقصر النظر. فهم وحدهم مدانون ويمكن ببضع آلاف من الدولارات تحت راية المصالحة المجتمعية أن يتم طي ملفهم. ألا يشبه هذا مقاربات نتنياهو للسلام الاقتصادي مع الفلسطينيين.
ثمة فريق في "حماس" لم يعد يرى بديلاً عن استكمال مشروع غزة. وهذا الفريق يجد في فريق آخر بات خارج المعادلة حليفاً محتملاً وأساسياً، خاصة أن المؤتمر السابع لـ"فتح"، الذي تم استخدام كل وسائل التهديد والضغط الإقليمي من أجل منع عقده، رفع البطاقة الحمراء الأخيرة في وجه عودة هذا الفريق للحركة الوطنية، ولم يعد أمامه إلا البحث عن الدخول للعبة تحت عباءة "حماس". وصارت غزة هي القاسم المشترك الذي يمكن للطرفين أن يحققا عبره أحلامهما الضيقة والممكنة رغم ذلك.
أصعب شيء إعادة إحياء الماضي، لكن من السهل الادعاء أنه لم يكن. وما يجري من تقاسم منظم وغير عفوي لمشروع غزة يعكس التوجهات الإقليمية القديمة. فياسر عرفات الذي آمن بأن غزة هي في قلب الوطنية الفلسطينية، رفض أن يتم الاتفاق على غزة فقط، وأصر على ربط الاتفاق بجزء ولو يسير من الضفة (أريحا) مقدمة لمواصلة العمل على بسط نفوذ السلطة بوصفها نواة الدولة المنشودة على باقي مناطق الضفة. وهو المنطق الذي كان دوماً في قلب الوعي الوطني الفلسطيني. القصة ليست في غزة أو في الضفة بل هذا الوعي الذي يجعل منهما كيانيين مختلفين يواجه كل منهما مصيره. وربما تحقيق مصير غزة الخاص أسهل مليون مرة بالنسبة لإسرائيل من الخروج من الضفة الغربية. كما أن توصيات مراكز الأبحاث الإسرائيلية منذ منتصف الثمانينيات تركزت على الخروج من غزة وجعلها مسرحاً للقتال بين الحركة الوطنية والإسلاميين. كان جزءاً من ذلك مثلاً إصرار إسرائيل على عدم تنسيق خروجها من غزة مع السلطة وإصرار المجتمع الدولي العجيب على إجراء الانتخابات التشريعية التي ستفوز فيها "حماس"، وقبل ذلك تدمير إسرائيل لكل مقرات السلطة في غزة وانهاكها مادياً ومعنوياً وتقويض شرعيتها في نظر مواطنيها في غزة، حيث تبدو عاجزة عن الدفاع عنهم. وصولاً بالطبع إلى تأجيج الصراع على السلطة ومحاصرة بيوت المناضلين ورمي البعض من فوق العمارات ومشاهد "قناصة ومش قناصة" وبالتالي تصوير "حسم" الصراع بأنه مهمة بانية فيما هو في الحقيقة تحقيق لرغبات خارجية.
لا يدور الحديث حتى عن "غزة أولاً"، بل غزة "دائماً". مشروع غزة مقابل المشروع الوطني. الجزء بديلاً عن الكل. ولا شيء في كل هذا النقاش يدور أو يمس أو يبدى حساسية تجاه مصالح الفلسطينيين في الخارج ولا أوضاعهم. تطور الهوية الفرعية (كاتب غزي، مواطن غزي وما شابه) معززاً بخطاب انقسامي حتى على الفضائيات العربية، وتأكيد العذابات الخاصة بغزة وهي موجودة ولكن يتم تصويرها وكأنها مركز عذابات الفلسطينيين، يقود للبحث عن خلاص "غزي"، خلاص تطهري يعفي غزة من الارتباط بالمصير العام. وبهذه يحقق الشركاء مطامحهم الشخصية ويتحرر كل طرف من عقده ونواقصه، ويصبحون على وطن على مقاسهم.
انزياح لا يمكن أن يكون بريئاً لأن البراءة لا تصلح للساسة بل للجهلة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية