لم يعد خافياً على أحد أن سياسة الدولة الكورية الشمالية تقوم على الأسس التي ستفضي حتماً إلى أعلى درجات التوتر الذي يمكن أن يصل إلى حد الحرب الشاملة، وإلى الانفجار الكبير، بما يشمل كوريا الجنوبية واليابان، وقد تصل الأمور إلى الأراضي الأميركية نفسها.
تُرى ما الذي يجعل كوريا الشمالية في هذا الوضع بالذات، ولماذا تصرّ كوريا الشمالية على تعمّد اللجوء إلى الخطوات "الاستفزازية" التي تعرف حق المعرفة أن من شأن التمادي فيها الوصول إلى الصدام الكبير؟
وهل سياسة الحصار، والعزل والفقر والإفقار التي تمارسها الولايات المتحدة ضد هذه الدولة بإسهام مباشر ومشاركة كاملة ومنسقة مع كل من كوريا الجنوبية واليابان هو الذي يفسّر سلوك بيونغ يانغ، أم أن هناك ما هو أبعد وأخطر من ذلك؟
بكل المقاييس فإن كوريا الشمالية واحدة من أكثر بلدان العالم انغلاقاً إن لم نقل إقفالاً تاماً، وهي تفتقر إلى الكثير من الحدود الدنيا لمستويات المعيشة، بالمقارنة مع قاعدتها التصنيعية العسكرية التي تعتبر متقدمة للغاية بالمقارنة مع القاعدة التصنيعية العسكرية في معظم البلدان النامية التي تنتمي إليها كوريا الشمالية.
أما نظامها السياسي فهو نظام مركزي إلى أعلى الدرجات، ويلعب فيه الفرد (الزعيم الكوري) الدور المحوري الأول، وهو نظام مكرّس بكامله لإرادة الزعيم ورغباته وأهوائه، وأحياناً نزواته.
لا مكان في هذا النظام للمعارضة أو الاعتراض أو الاختلاف، والإمكانية المتاحة والوحيدة هي المنافسة على أعلى درجة ممكنة من الاستجابة لتلك الإرادة، أما ما عدا ذلك فهو غائب ومغيّب، بل ويمكن القول إن مجرد التفكير بمثل هذا الغياب يمكن أن يؤدي بأصحابه إلى الهلاك المحتّم.
وأما الأسس الاقتصادية للدولة فهي الاقتصاد المركزي الشامل والافتقاد إلى أي سياسات حقيقية قائمة على الحساب الاقتصادي، ويتعلق الأمر هنا بكافة الحلقات الاقتصادية من الإنتاج من حيث نوعه وكميته والتوزيع والاستهلاك ومن قبله التداول.
وتتحكم الدولة بكافة الموارد، وهي التي تقرر سلفاً ومسبقاً الأولويات من حيث الحقول ومن حيث المواصفات ومن حيث الاستخدام، أيضاً، وتكاد تنعدم بالكامل وبصورة قاطعة المبادرات الخاصة بالتخطيط المحلّي أو المناطقي أو القطاعي، ولا تتوفر أي حوافز مادية لأي مبادرات أو سياسات لا تخضع بكليتها للتخطيط المركزي.
وحتى عندما يتعلق الأمر بالامتثال التام للخطط المركزية الصارمة فإن التحفيز الاقتصادي هو أقرب إلى الحال المعنوية فيه إلى المكتسبات المادية.
يشبه الاقتصاد الكوري الشمالي الاقتصاد الروسي في مرحلة الحرب الأهلية، وما قبل مبادرة لينين "للسياسة الاقتصادية الجديدة"، ويتشابه بالكامل مع المرحلة الستالينية من التخطيط المركزي، والتركيز على التصنيع العسكري، وإهمال مستوى حياة الأفراد وإخضاع كل شيء لمتطلبات الحرب الوطنية في حينها وعلى مدى زمني طويل.
كما يتشابه النظام السياسي والاقتصادي لكوريا الشمالية مع معالم الاقتصاد الصيني في مرحلة الستينيات من القرن الماضي.
كان ما عرف بالثورة الثقافية الأداة الفكرية التي من خلالها حاولت الثورة الصينية في حينه "كبح جماح" الانفتاح، وإقامة نظام اقتصادي محاسبي قائم على قوانين الجدوى والربحية والمردود الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء.
لهذا فإن النظام السياسي في كوريا الشمالية بغض النظر عن النوايا، وبغض النظر عن التضحيات التي قدمها الشعب الكوري دفاعاً عن سيادته، وفي مواجهة الحصار، والخنق، والإفقار المنظم الذي مارسه الغرب ضدها بقي في الواقع أسيراً لمرحلة انقرضت من القاموس السياسي لعالم اليوم، وهو نظام أبى حتى اليوم أن يغيّر قيد أُنملة في نهجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهو ما زال حالة أصولية متزمتة من الفكر الاشتراكي.
ولذلك فإنه وبالرغم من القسط الكبير من المسؤولية التي يتحملها الغرب تجاه شعب كوريا الشمالية، إلاّ أن المسؤولية الأولى تقع على هذا الواقع الذي تعيشه كوريا الشمالية، إن كان لجهة المنهج السياسي والاقتصادي أو كان لجهة السلوك الذي تقوم عليه وتستند إليه السياسات الكورية.
المشكلة الكبرى ـ كما أرى ـ هي أن النظام في كوريا الشمالية وعلى الرغم من رقابته الصارمة على وسائل الإعلام والتواصل أصبح يدرك اليوم أن المقارنة في مستوى حياة السكان بين الكوريتين تفضي إلى اختلالات كبيرة، كما أن منسوب الحريات بينهما غير قابل للمقارنة أصلاً، إضافةً إلى أن التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل للدولة في كوريا الجنوبية والمكانة الاقتصادية التي تحتلها في مصاف الدول الصناعية قد وضع النظام السياسي والسياسات الكورية الشمالية أمام امتحان عسير ونتائج مختلة بالكامل.
لم يعد أمام النظام السياسي في كوريا الشمالية ـ على ما يبدو ـ غير شحن الأجواء وتوتيرها لإبقاء الشطر الشمالي من كوريا في حالة عسكرية واقتصاد معسكر وسياسة معسكرة، وثقافة معسكرة، أيضاً.
لا مجال لبقاء النظام ـ من وجهة نظر النظام نفسه ـ دون هذا الشحن وهذا التوتير، ودونه يصبح النظام في مهبّ الريح وفي موقع الخطر الدائم والداهم.
السؤال هو: إلى أي حد يمكن للنظام في كوريا الشمالية أن يلعب لعبة حافة الهاوية؟ وإلى أية درجة يمكن أن تكون حساباته دقيقة في مرحلة ترامب واحتدام الصراع على المستوى الدولي؟
أغلب الظن ـ والأمر كلّه وبِرُمَّتِه ما زال في مرحلة التخمين ـ أن ثمة تهوّرا أعلى من اللازم في سلوك كوريا الشمالية، وأن ثمة انعداما للوزن في بعض الخطوات الاستفزازية التي يقدم عليها النظام السياسي هناك.
هذا الأمر ـ التهوّر وانعدام الوزن ـ قد يكون مدمّراً لأن دوائر معينة في الولايات المتحدة وربما في اليابان وكوريا الجنوبية، وفي الغرب عموماً ربما ترى في هذا التهوّر بالذات فرصتها للانقضاض على كوريا الشمالية والتخلص من نظامها مرة وإلى الأبد.
ومع أن ذلك بالمقابل يمكن أن يؤدي إلى صدام عسكري شامل، ستكون له نتائجه الكارثية على المستوى الإنساني، من حيث حجم الدمار والخسائر البشرية، إلاّ أن كوريا الشمالية إن وضعت في وسط معادلة البقاء من عدمه فهي بكل تأكيد لن تختار التراجع، وستخوض هذه الحرب ـ إن وقعت ـ على قاعدة أن تكون وتكون قوية أو لا تكون أبداً.
ربما تخطط كوريا لإجبار الغرب على المفاوضات تحت تهديدها بالدمار الشامل، وربما تنجح في إخافة الولايات المتحدة من التورط في حرب كهذه، لكن المؤكد أن الحرب في شبه الجزيرة الكورية ستؤدي، أيضاً، إلى تدويل الحرب، وربما التحوّل إلى صدام شامل أكبر من مساحة الكوريتين، وأبعد من حدود الجغرافيا السياسية لتلك المنطقة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد