يشهد بحر قطاع غزة تلوثاً غير مسبوق في تاريخه؛ نتيجة ضخ النفايات والمياه العادمة فيه. وتكاد أغلبية الشواطئ فيه تكون غير صالحة للسباحة، ناهيك عن الصيد. ووفق تقديرات رسمية فإن نسبة تلوث مياه البحر زادت على 70% نتيجة ضخ مياه المجاري فيه، وعليه فإن أغلب مناطق الاصطياف التي يرتادها الناس هرباً من الحرارة المرتفعة وسعياً وراء الترفيه، في ظل الحصار القاتل المفروض على القطاع، باتت غير صالحة للاصطياف، بل إنها تؤثر سلباً على الثروة السمكية الشحيحة أصلاً في القطاع؛ بسبب ضيق مساحات الصيد والانتهاكات المتواصلة التي تقوم بها بحرية الاحتلال ضد الصيادين. إلى جانب ما يجلبه هذا من خسائر مادية لأصحاب الاستراحات والمطاعم والكافتيريات المقامة على الشاطئ والذين بدورهم يستأجرون مساحات الأراضي من البلديات والجهات الحكومية المشرفة على منطقة الشاطئ. 
وقدرت تقارير رسمية، تم نشرها في وسائل الإعلام، بأن أكثر من 110 آلاف متر مكعب من مياه الصرف الصحي غير المعالجة يتم ضخها إلى مياه البحر بشكل مباشر من 23 مصرفاً تمتد على طول شواطئ القطاع. فيما أشارت تقارير أخرى إلى أن ما يتم ضخه يزيد على 120 ألف متر مكعب. ويتم ضخ هذه الكميات المهولة في مسافات لا تتجاوز المسافات القانونية المحددة بـ500 متر داخل البحر، ما يسمح باختلاط وتطهير المياه. وبالتالي فإن المياه العادمة تتمكن من غزو مياه البحر وتلويثها. ويمكن لمن يمشي بالقرب من الشاطئ أن يلمح اللون الأسود المعكر الذي بات يطغي على زرقة البحر الجميلة، للدرجة التي يمكن فيها عند النظر إلى صورة مقطعية من البحر وهو هادئ أن تظن أنك تنظر إلى بركة مجاري أو بركة صرف صحي، مثل تلك الموجودة في شمال غزة أو في الشيخ رضوان أو شرق غزة. 
بعبارة أخرى حتى جمالياً فإن البحر بات في خطر، وباتت تلك الصورة الجميلة لغزة، الجزء الوحيد المتاح لنا من شاطئ فلسطين الأجمل، مهددة بأن تصبح في خبر كان. ورغم أنه يُعتب على الصحافة التفاتها المتأخر للقصة وإثارتها بعد أن بات التلوث أمراً واقعاً، إلا أن ما أثير يجب أن يدق ناقوس الخطر.
المؤكد أن الحصار وتداعيات الوضع في قطاع غزة تساهم بدور كبير في أسباب تلوث البحر، خاصة أن محطات معالجة مياه الصرف الصحي بحاجة لتيار كهربائي دائم حتى تتمكن من العمل، بجانب حاجتها للكثير من المعدات وقطع الغيار والمواد الكيماوية التي يعمل الاحتلال على إعاقة وصولها. وبالطبع فإن الاحتلال يتحمل المسؤولية الكبرى عن مجمل أزمات قطاع غزة بصفته قوة احتلال. لكن أيضاً من المؤكد أننا نتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية في تدمير حياتنا وجعل مستقبلنا معدماً ومعكراً مثل لون بحر غزة الآن. وما تلوث البحر إلا مقطع صغير من الساجا الحزينة التي باتت هي قلب الحكاية الفلسطينية المعاصرة.
صحيح أن هناك حصاراً على غزة، وصحيح أن الكهرباء تشكل واحدة من أزمات غزة التي بات فهمها أكثر تعقيداً من فهم أزمات العالم مجتمعة لكثرة الأسباب وتعدد الشروحات التي غُيب عنها كلها المنطق، وصحيح أن الاحتلال لن يدع لنا شأناً إلا حاول التدخل فيه من أجل جعل حياة مستحيلة، وصحيح أن حياتنا معلقة بين الطموح المرغوب والواقع الأليم، وصحيح أن ثرواتنا وإمكاناتنا قليلة وشبه معدمة، وصحيح أن العالم لم يعد يهتم، وأيضاً ثمة تريليون سبب صحيح آخر يمكن لنا أن نسرده في هذا المقام، كلها قد تعفينا جزئياً من مسؤولية الدمار الذي يجري في قطاع غزة وفي قضيتنا الوطنية. ولكن أيضاً هل يجوز لأي كان أن يحتكر اتخاذ قرار بمثل هذه الخطورة على حياتنا: أن يقوم بضخ مياه المجاري والصرف الصحي في البحر؟ هل يحق لأحد أن يلوث بحرنا! هل يحق لأحد أن يقتل أسماكنا! ألا يكفي قتل الأحلام، وإجهاض الأماني، وإعاقة الطموحات، وتعثر المستقبل، ووأد البشارات! ألا يكفي أن المشروع الوطني بات في غيبوبة، وأن طموحات الناس باتت لا تتعدى جرة الغاز، وأن أسمى توقعاتها للغد أن تأتي الكهرباء لثمانية ساعات ويتغير الجدول، وأن الخروج من غزة بات رحلة الحياة الأخيرة لكثيرين، حتى بات الغرق في البحر عبر الرحلة غير الآمنة أكثر أمناً من الحياة! ألا يكفي أننا لم نعد ما كنا! 
كان يجب ابتداع طرق أخرى بدلاً من الذهاب للخيار الأسوأ، كما أن من هو في موقع المسؤولية عليه أن يجد الحلول التي تعزز صمود الناس وتحافظ عليهم، لا تلك الحلول التي تدمر المقدرات والثروات الوطنية وتجعل حياة الناس أكثر تعقيداً وأشد وطأة. فالحكم مسؤولية وليس مجرد اتخاذ قرارات مزاجية. وتدمير البحرـ وما قد يترتب عليه من تبعات صحية وبيئية ووطنية، كله يجب أن يوضع تحت مجهر المساءلة والمراجعة والمحاسبة حتى لا يصبح الغد مستحيلاً بشكل كامل، وحتى لا نجد أنفسنا نخسر دائماً. القصة ليست في تحميل المسؤولية وتبادل الاتهامات كما قد يطيب للكثيرين أن يفعلوا، القصة في استيقاظ الحس الوطني وتلمس المصلحة العليا عند الحديث في شؤون الوطن وفي التفكير في كيفية حماية الناس وصحتهم. المؤكد أن من يضخ مياه المجاري في البحر لا يفكر في كل ذلك، بل يفكر كيف يرمى بالمسؤولية خلف ظهره.
مرة أخرى لا يمكن أن يكون السياق السياسي بعيداً عن كل هذا الحديث، ومرة أخرى يمكن الحديث عن تريليون سبب قد يفسر كل ما يجري، ولكن لن يوجد سبب واحد يشفع لمثل هذه الجريمة.
يروي السياسي المخضرم الدكتور نبيل شعث في مذكراته أن ياسر عرفات في أول مرة يقف فيها على شاطئ البحر (هل تذكرون أن أول عدد من صحيفة الأيام ظهر بصورته وهو يتأمل البحر) سأل باندهاش: ده بحرنا! البحر ذاته الذي يحملنا إلى يافا وحيفا، البحر ذاته التي تضرب أمواجه شواطئ الأحلام هناك. أليس هذا البحر لنا؟! اسمعوا درويش وأنتم تصطافون على الشاطئ الحزين:
«هذا البحر لي. 
هذا الهواء الرطْب لي. 
هذا الرصيف وما عليْهِ
 من خطاي وسائلي المنوي لي. 
ومحطة الباصِ القديمة لي. ولي 
شبحي وصاحبه. وآنية النحاس 
وآية الكرسي. والمفتاح لي. 
والباب والحراس والأجراس لي. 
لِي حذوة الفرسِ التي 
طارت عن الأسوار». 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد