لم يستمر زواجها أكثر من بضعة أشهر، وأخيراً كسبت قضية الطلاق التي رفعتها على زوجها بعد بضعة أشهر أخرى؛ وذلك تم بعد طول مشقةٍ وتعب، واستمرار عنتٍ ونصب، جرياً وراء المحاكم، وما أن تم طلاقها حتى تنفّست عبير الحرية، وشعرت بانعتاقها من قيد العبودية، المُغلّف برباط الزوجية، كيف لا وقد تخلّصت من حياةٍ فُرضت عليها ولم تُستشر بها وكانت موتاً معنوياً لها فأصبحت الحياة والموت عندها مثلان متشابهان، وكيف لا ولم تكن تجربتها القصيرة في الزواج إلا تجربة مريرة شهدت لحظات كئيبة وفترات عصيبة وأوقات تعيسة.
فقد تزوّجت من شاب كل مزاياه أنه ابن تاجر غني يكسب المال بالقنطار، وهو ماجنٌ يصرف المال بإسراف واستهتار، كما يعيش حياته بخفةٍ وإهمال؛ ذلك بأنه من النوع الذي ولد وفي فمه ملعقةٌ من ذهب، فلم يعرف ما بين العمل والمال من ارتباط، ولم يدرك ما بين بذل الجهد وتحقيق الإنجاز من اقتران، ولم تكن للقيم- غير قيمة المال- أي مكان عنده... وهذه كله ثمرة ما زرعه والده فيه حيث أعطاه كل شيء لدرجة جعله فاقداً لكل لكل شيء له علاقة بقيم الرجولة وشيم المروءة وخصال الشهامة. وكان هذا العطاء الجزيل سبباً في الشح الكبير في منظومة القيم عنده، فجعلها قليلاً من قليل، فكان هو وصفات الوضاعة والخساسة والسفالة سيان أو توأمان سياميان.
ولم تكن المسكينة تملك من المزايا- آنذاك- سوى أنها فتاة جميلة أنهت لتوها دراستها الثانوية وتستعد لدخول الجامعة، فكان من سوء حظها وطالعها، أو لأمرٍ قد قُدر، أن رآها ذلك الشاب الماجن في أحد محلات والده التجارية تشتري جلباباً استعداداً لدخول الجامعة، فأعجبته ووقعت في نفسه فأمر من يتبعها ليعرف بيتها، وما هي إلاّ أيام حتى ذهب مع أبيه لخطبتها من والدها، وكان عاملاً فقيراً يكسب المال بشق الأنفس ولا يكاد يجد ما يقوت به عياله، وهو إن كان شحيحاً عليهم بالمال لفقرة وبؤسه، فقد كان كريماً جواداً معهم في منحهم الحب والحنان وقيم الإنسان، ولكن فقره المزمن بسبب كبر حجم أُسرته وقلة مصادر رزقه ضرب على قلبه نوعاً من الانكسار، وأصاب نفسه مسحةً من المهانة، فقبل أن يزوّج ابنته لذلك الشاب الماجن ابن التاجر الغني رغبةً منه في التخلّص من عبء تعليمها وأملاً في تخليصها من حياة الفاقة والضراء عنده وانتقالها إلى حياة النعيم والرخاء عند غيره.
وبهذا الزواج التقى استعلاء الثراء وطغيان المال ومجون الشباب مع ذل الفقر وانكسار الحاجة وسحر الجمال على صناعة البؤس وإنتاج الفشل متجسدة في زواج ملأ حياتهما جحيماً وشحن نفوسهما حقداً وأوغر صدورهما غلاً... فلم يكد يمر يوم أو يومان حتى يوسعها شتماً وضرباً ثم يزيدها إهانةً ويعيرّها بفقرها وأنه نقلها إلى حياة الغنى والثراء، ويكرر أمامها كلماتٍ توارثها كابراً عن كابر منها "المرأة مجرد خادمة في بيت زوجها، اكسر للمرأة ضلع بيطلع لها أربع وعشرين، المرأة عقلها ناقص، إذا ما سلكتي هجيبلك ضرة كما قال المثل اضرب المرة بالمرة... " ولم يفوّت أي فرصة في تكرار الشتم والضرب والإهانة كلما اعترضت على سلوكه الماجن وتصرفاته المستهترة، فيقوم بتفريغ شحنات غضبه وإسقاط عقد نفسه وإخراج أضغان قلبه عليها، ثم يصل الأمر إلى الطرد كلما بلغ منه الغضب مبلغه، ووصل الغيظ به إلى أقصاه وهكذا دواليك كلما (حل الكوز في الجرة).
وكلما ذهبت إلى بيت أهلها (حردانة) يتدخل رجال الإصلاح لإعادتها إلى بيت زوجها دون أي تعهد حقيقي بتغيير سلوك الزوج رغم معرفة الجميع باعوجاج سلوكه وانحراف أخلاقه وشذوذ تصرفاته، وكانت المسكينة تتعرّض كل مرة لوابلٍ شديد من نصائح جدتها حول ضرورة خضوع المرأة لرجلها وانصياع الزوجة لزوجها وطاعة الحليلة لحليلها، وتزويدها دروساً في أصول الطاعة الزوجية ونظرية دونية المرأة الشرقية وتدني قيمة المرأة العربية، وتدعم رؤيتها الدونية للمرأة بمجموعة من الأمثال الشعبية المتوارثة أماً عن جدة ومنها "المرأة بلا رجّال مثل البستان بلا سياج، وظل راجل ولا ظل حيطة، وريحة الزوج ولا عدمه، والبنت يا جيزتها يا جنازتها..."
لكن هذه المرة تختلف عن المرات السابقة، ذلك بأن شيئاً ما قد تغيّر في نفسها، لم تعرف من أين جاءها، ربما كان ذلك إلهام مَلَك، أو وحي شيطان، أو وسوسة نفس، أو لحظة إشراق، أو تراكم معاناة... ولكنها أصبحت تعرف ما تريد، وهذا هو الأهم، وهذا الذي جعلها ترفض التسليم بمواصلة حياتها السابقة، بل الحياة التي أرادها لها الآخرون ولم يكن لها أي دور في اختيارها، فقررت أن تكون ما تريد، فقررت طلب الطلاق من زوج ماجن مستهتر لا يريد من الأنثى سوى جسدها، ومن المرأة سوى خدمتها ومن الزوجة سوى رحمها لإنتاج أولاده، ولا يفهم من الزواج سوى حقوق السيطرة ونوازع الهيمنة على مخلوق آدمي يعتبره أدنى منه في مرتبة بين الإنسان والحيوان، ولا يدرك معنى الشراكة الزوجية ومفهوم العشرة الأُسرية إلاّ من باب العلاقة التحكمية ومدخل النزعة التسلطية.
لذلك لم يطل الصراع داخل نفسها بين العودة إلى حياة يريدها لها كل من حولها ما عداها أو الحياة التي تريدها لنفسها. وبين استمرار حياة مملة ومهينة ومضمونة مع كثرة المال، أو البدء بحياة جديدة مثيرة وعزيزة ومغامرة مع قلة المال، وبين استمرار المحافظة على شخصية رسمها الآخرون لها خانعة مستكينة أو أن تكون ما تريد من شخصية حرة مستقلة. فحسمت أمرها وتمردّت على واقعها، وتحدت كل المعوّقات التي حالت بينها وبين تطبيق قرارها من داخل أسرتها ومجتمعها حتى نالت ما تريد.
استأنفت المرأة حياتها وتبعت ما أوحت به نفسها، وغيرّت مسار طريقها بعد الطلاق، وقررت ألا تسلّم مصيرها وزمام حياتها لأحدٍ غيرها، وبدأت دراستها الجامعية ونالت درجة البكالوريوس بامتياز، واستطاعت إيجاد عمل في مجال تخصصها في إحدى المؤسسات الكبيرة الموجودة في البلد.
وحتى هذا الحد من القصة انقطعت أخبارها عني بسبب ظروف العمل حتى مرت بضع سنين عندما رأيتها في أحد المنتزهات مع رجل وطفلين فالتقيت بها وعرفت منها أنه زوجها وطفليها، وعرفت منها أيضاً بقية القصة حيث انها تعرّفت على زوجها أثناء العمل وأنهما يشتركان في كثير من الأمور منها مرورهما بتجربة زواج سابقة فاشلة كان لحسن حظهما أنها مرت بدون أولاد. وأنها قد تقدمت في عملها وتم ترقيتها فيه بسبب جدها واجتهادها.
الشئ الذي لم تقله لي تلك السيدة وقد أدركته من خلال تجربتها الناجحة أن جوهر تمكين المرأة وبدايته لا بد أن يبدأ بتغيير تصور المرأة عن ذاتها وتحسين مفهومها لذاتها ونفسها فقد آمنت تلك السيدة بنفسها وقدراتها وبأنها تستطيع أن تكون ما تريد وأن تعيش حياتها التي ترغب بها، وأن تؤمن بذاتها وقدراتها وإمكانياتها، ثم تمتلك القدرة على تحديد أهدافها وكيفية الوصول إليها، واتخاذ قراراتها بنفسها، وهذا هو جوهر ومضمون قوله تعالى " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية