يبدو أن ما يدور الحديث عنه الآن من تفاهمات ودردشات واتفاقيات خاصة ب غزة لا تقود في النتيجة النهائية إلا لفصل غزة عن المشروع الوطني، وتطوير مصير خاص بها بعيداً عن المصير الجمعي والنتائج النهائية للصراع في المنطقة. 
ليس أن ثمة خصوصية ما لكل سياق فلسطيني، وهي موجودة رغم ذلك، وليس أن ثمة تطويراً في الوعي الوطني تجاه بعض الحلول التي يمكن أن تساهم في تجسيد الحل الكبير الذي يمثل الحلم الأسمى، ولكن ما يدور الحديث عنه هو البحث عن مخارج وحلول جزئية ليست جزءاً من وعي عام تجاه الطموح الوطني. 
بعبارة أخرى ليس فيما يجري من تقريب للمصير المبحوث عنه، وليس هناك إبداع لمعجزات جديدة، كما أن ما يجري هو تهميش للفكرة الكبيرة لصالح الأفكار الصغيرة. فالتركيز على الجزء على حساب الكل قد يكون مفيداً لو كان ضمن نسق أكبر للوعي يساهم في زحزحة حالة الجمود، مثلما كانت الحال في النقاط العشر والحل المرحلي الذي تبنته منظمة التحرير وقتذاك، ولكن الحديث عن غزة والحلول الخاصة بغزة سواء من جهات محلية وربما بدفع غير واعٍ أو غير صريح من جهات خارجية والتساوق الكبير الذي يتم مع الخطط الإسرائيلية التي بدأت بمقترحات مركز جافي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي ووجدت طرقا عدة لتنفيذها وانتهاء بالمقترحات الإسرائيلية حول جزيرة صناعية داخل بحر غزة وكيانية في غزة وهدنة تصل ربما لنصف قرن يتحدث عنها البعض. 
أيضاً لابد أن نشعر بالأمر من خلال تنامي الخطابة المحلية على حساب الخطابة والسلوك الوطني. 
فغزة تقاتل والحرب على غزة (طبعاً هي عدوان) رغم أن باقي المناطق الفلسطينية تتعرض يومياً للتهويد والمصادرة والتقتيل والتشريد والحصار، وبالتالي فإن القول بتحديد جغرافيا العدوان هو إعفاء للعدو من جرائمه. 
إضافة إلى ذلك فإن الهدنة ووقف إطلاق النار الذي كان يتبع كل اعتداء على غزة خاصة في العقد الأخير كان يتحدث فقط عن غزة ولا يأتي على ذكر القدس ولا الضفة الغربية. 
تدريجياً ساهم هذا بل وعزز في تكريس الفكرة الإقليمية القديمة بأن ثمة مصيراً مختلفاً لكل منطقة جغرافية في فلسطين، مصيراً مرتبطاً بجوارها الإقليمي.
بالطبع فإن فلسطين جزء من الأمة العربية وهي أرض عربية بكل تأكيد. لكن ما تسعى إليه الحلول الإقليمية منذ سواد النكبة العظيم هو طمس الطموح الوطني الفلسطيني. 
إن الدولة الفلسطينية هي النقيض الكامل والأكثر ضراوة للصهيونية. لذا فإن هدف الصهيوينة الأول والأخير هو منع نشوء مثل هذه الدولة. 
ويمكن لنا أن نراهن كثيراً على أن كل ما تقوم به السياسات الإسرائيلية هو تقويض فرص وممكنات إقامة دولة فلسطينية، أو على الأقل جعل مثل هذه الدولة كياناً هزيلاً لا يعبر حقيقة عن أي آفاق لتطوير مشروع التحرر الفلسطيني، وعليه فإن الحل الإقليمي يعني إبعاد فرصة الحل الوطني.
الحلول الإقليمية التي تم بعثها قبل فترة مرة أخرى في النقاش تنفي غزة نحو مصر في هذه الحالة. 
بالطبع الإسرائيليون لا يفكرون بمنح الضفة الغربية للمملكة الأردنية ضمن هذه الحلول بل بالبحث عن دور إقليمي يساهم في امتصاص الهم الديمغرافي هناك. بعبارة أخرى بالنسبة لإسرائيل فإن الأزمة تكمن في غزة، في المخزون المهول من البشر والمساحة الضيقة التي لن تكفيه بعد زمن قصير إذا واصل انفجاره التكاثري. والمشكلة طالما كانت في غزة وعن غزة فإن الحل الإقليمي يعني ضرورة التخلص من غزة فقط، والتخلص من غزة لا يتم إلا بفصلها عن الطموح الفلسطيني العام وجعلها مشروعاً مختلفاً، ما تحقق مع انقلاب حزيران العام 2007 وما قاد إليه من انقسام. لكن حتى هذا الانقسام لم يعد انقساماً بل يصار تدريجياً إلى تأبيده ونقله من مجرد نتيجة لأحداث مأساوية إلى طموح ومشروع سياسي دائم. 
والمحزن أن البعض يمكن أن يختصر الحلم الوطني بحلمه الشخصي وبمكانته السياسية، كما يمكن أن يختصره البعض في استمرار سيطرته وحكمه ووجوده وبقائه. وفي كل الحالات ثمة لاعبون إقليميون يتم بيعهم سندات باهظة من رصيد القرار المستقل والمصلحة الوطنية. 
وربما الأمر ليس محزناً إلى هذا الحد إذ إن السياسة لم تخلُ يوماً من أمثال هؤلاء الذين لا يعرفون إلا الطريق التي يضعون فيها أقدامهم والمشاريع التي تعود على شخصهم بالربح. 
وربما المحزن أكثر أن تتم التضحية بالوطن أمام المناكفات والكيد العبثي. وغزة التي في لحظة تاريخية كان فيها كل الوطن يراد لها أن يتم اختصار الوطن فيها.
ففي لحظة بعد العام 1948 لم يبق على الخارطة من فلسطين إلا غزة وبذلك حافظت غزة على اسم فلسطين على الخارطة، أما الآن فإن هناك من يريد، من أجل موطئ قدم له، أو من أجل أن يستمر في حكم غزة من أن يختصر فلسطين في غزة ويقتل الفكرة الوطنية.
ما يجري الآن هو تثبيت أركان هذا المشروع من تعزيز التوجه نحو مصر. جزء من هذا سيكون اعفاء الاحتلال من مسؤولياته التي تفرضها عليه النظم والشرائع الدولية كقوة احتلال يحاصر القطاع ويهيمن على مجاليه البحري والجوي وعلى حدوده كما يسرق مصادره الطبيعية وثرواته، والأهم أن غزة ليست شيئاً وعالماً وكوكباً منفصلاً بل هي جزء من كيان وأرض محتلة فبالتالي وحتى وإن خرج منها الاحتلال أو وقف على مشارفها فهو لا زال يحتلها لأنه يحتل الوطن برمته. عموما هذا نقاش آخر لكنه مهم في هذا المضمار حتى نفهم ما نحن مقدمون عليه.
وفيما سيتراشق جميع المشتركين التهم في تحمل مسؤولية النتائج، فإنه لا يمكن تبرئة النوايا مبكراً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد