بلغني أيها الشهيد العتيد، أن حزيرانَ آخر يمضي، خمسون حزيران تمضي بنا نحو غموضٍ بنّاء. الجميع متأثر باحتفالات اليوبيل الذهبي للاحتلال، احتفالات هنا وهناك، تُرفع الأنخاب، يُصيبنا الدُوار من الانفعال بالحدث الخمسيني. ربما تُعزَفُ بعض الألحان الحزينة في الأمم المتحدة، تصل البكائيات إلى درجة راقية من الاتقان والجودة.
بلغني أيضا، أن حزيران آخر يمضي، بذات المذاق والطعم. لا جديد في هذا، يحدث في كل حزيران. لا زلت أجمع قصاصات الورق، أطبع عليها كلاماً باذخاً، مُباحا وغير مُباح، عن الحب والفقد. سطور قابلة للنسيان، وأخرى باقية كوشْم. ستغفر لي اللغة عبثي بحروفها، يحق لِزوْجة الشهيد ما لا يحق للأرملة. أكذب على نفسي وأصدقها.
أقسم أني ما كنت لأكتب حرفاً، لولا بعض الكلام لا زال يزحف على أصابعي، مناسبات وتواريخ، لا بأس من استكماله. لا بد من معرفة العالم أنك وإنْ تركتني من أجل حوريّات فلسطين؛ لم أفعل، لم أتركك. وإن كنت قد مررت عني دون أن تلوِّح بيدِك، لم أفعل. وإن أنت أشحت بوجهك عني، لا أعاملك بالمثل. السنون مهما مَضَتْ، أنت لا تمضي. أنت بقيتَ هنا.. أنا نسيْت نفسي هناك.
بلغني أيها البعيد القريب، أن «شهرزاد» قد أبلغتك أن الحال استقر بي على ورقة وقلم. أرتب أفكاري وعواطفي وأفرِّغ من ذاكرتي فائض حمولتها العاطفية، في مقالٍ سنويّ لا فائدة تُرجى حتى من مطالعته، جزء لا يتجزأ من واجباتي الزوجية: العصمة بيدك ليست بيدي.. للأسف لم تعد الحروف تروي رغبتي في نصٍ مُحكم، لا تعبّر عما تُبطن، كما فعلت سابقاً، أدت وظيفة محدودة النطاق. لغة مهزومة تحارب بالكليشهات؛ الأمر في الحرب والسلام وفي الحب. سيّان، سواء حملنا البندقية أو غصن الزيتون. أما في الحب؛ حمَّالة أوجه الخوف.
بَلَغَني أيها الشهيد، أن «شهرزاد قد همست لك، أن الأسئلة في الوقت الحاضر تبقى بلا إجابات، إنه عصر الإجابات الجاهزة، تأتي معلَّبة من خارج الحدود. لا اتفاق على إجابة، نحشد اللغة ولهجاتها، نخوض الحروب بالنيابة عن الآلهة. سؤال المدن العربية: مع من وضد من؟ سؤال نجد حرجاً في الإجابة عليه قبل أن نفهم.. من الذي يفهم؟
بَلَغَني كذلك؛ أنك لم تعد تؤمن بوجود حياة أخرى للشهداء. لأنك تقف بين عالمين، الدنيا والآخرة، الثابت والمتحول. المواضيع التي ينشغل عالمنا في الإجابة عنهما. ويجرون الأحياء والأموات نحوها، نحن عالقون بين كلامين، بين نصَّيْن، الأول رغبة في إعادة الحياة الفلسطينية إلى دورانها الطبيعي. والثاني يرسمُ مساحات جديدة للوهم.
كيف يمكنكم مساعدتنا في صنع الفرق، إشهار النصّ في مواجهة سرطان تضخم الخلايا الفئوية.. الأسرى منحونا نصهم ورؤيتهم ل فتح صفحة جديدة، مُقاربة الكرامة والحرية. أجابوا عن سؤال: كيف يمكن لأسير جديد كل يوم، تحريرنا من أوهامنا وكوابيسنا!
أبْلَغَتْني «شهرزاد كذلك؛ أنك غاضب، مزاجك ساخط بسبب انتهاك حرمة أيامنا وليالينا. تقول إنك تبتلع مع القهوة وجبات الدم والهجرة. تبدأ نهارك في توزيع التعازي، على أهل العراق واليمن وسورية ومصر وليبيا. إنه عصر الفضائح بلا منازع، بذاءات عربية معوْلَمة. قصصها ومعالمها منشورة على جميع الحبال.. انتهى عصر اليقين والتنظير. ما قالته شهرزاد عنك خطير.. لدرجة أني سألتها إن كنت أنت أنت!
في سنتك الأولى بعد الثلاثين، كنت أرتب لمفاجأة جميلة. كتاب عن قصتنا الغريبة، كيف بدأت وانتهت. أفتح صناديقي السوداء، أستخرج وقائع أيامي التي لا تمر أمامي، كيف قمت بتأثيـث بيت الوحدة، فرشته بالذكريات، بالخيال والغناء، كيف انك لم تفِ بوعدك، أن نبقى معاً. تُشَرِّدُني تلك الكلمة، معاً.
القلم لا يُطاوع، لا يستطيع أن يرسم، غادرتني الكتابة هي الأخرى، لماذا تغادرني أشيائي المحببة على هذا النحو، هل أغرمت بك حروفي لتغيب معك..هل اعتدت أن تأخذ كل شيء مني. كان على «شهرزاد» أن تجمع أشيائي المتروكة بين يديك. تعيدها لي.
في يوبيلنا الذهبي وعامك الجديد أسألك المعذرة، وضعي «شهرزاد» بيننا، في المسافة الوهمية الفاصلة بين عوالمك وعالمي. مقاربة «شهرزادية» مقصود بها خلط الحقائق «بالفانتازيا». اعترافاً مني بحسن أدائها، فقد أظهرت مقدرة في تأجيل الأجل، حقن الدماء، حماية الضحايا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية