يُروى أن أعرابياً كان يرعى الإبل لقومه خرج يوماً ما بالإبل فهاجمته مجموعة من اللصوص واستولوا على الإبل دون أن يقاومهم أو يهرع إلى قومه ليطلب النجدة، واكتفى باعتلاء أكمة وأنهال عليهم شتماً حتى غابوا عن ناظريه وساقوا معهم الإبل وعندما عاد إلى قومه سألوه عن الإبل وعما صنع؛ فأخبرهم القصة، وعندما استفسروا عن دوره فيها، قال: "أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل"، فضحك عليه قومه فذهب قوله مثلاً يُضرب على كل من يقصرفعله ويطول لسانه بالشتم.
وهذا المثل ينطبق على معالجتنا لمأزق غزة بفصوله الأخيرة التي بدأت بإجراءات السلطة الفلسطينية التعسفية تجاه قطاع غزة، وفي مقدمتها خصم نسبة كبيرة من رواتب موظفي السلطة في القطاع، فوّجهنا غضبنا المشروع والمبرر إلى رئيسها، فأخرجنا المظاهرات المنددة والمستنكرة بقرارات الرئيس وإجراءاته، وأطلقنا ألسنتنا بالهتافات والتصريحات والخطابات المكتظة بالشتائم والسباب، وأنهلنا عليه قدحاً وذماً، وأخرجنا ما في جعبة قاموس اللغة العربية من هجاء وطعن ولعن، وابتكرنا طرقاً جديدة في التشهير والتشويه ومنها استخدام الحمير لمزيدٍ من التسفيه والتحقير.
وإجراءات السلطة وقرارات رئيسها تجاه غزة تستحق النقد والاحتجاج، وهي قرارات مرفوضة ومستهجنة، ومن الطبيعي استنكارها وشجبها... هذا شيء وما حدث من شتم وطعن ولعن وقدح شيءٌ آخر يشير إلى مجموعة من المعاني السلبية مضمونها يحمل العجز السياسي والإنغلاق الفكري وتجاهل الحقيقة والقفز على الواقع وخداع النفس والتهرّب من المسؤولية وتقمص دور الضحية والتغنّي بالمظلومية. والأصل أن يواجه المأزق بالفاعلية السياسية والإنفتاح الفكري والاعتراف بالحقيقة ومواجهة الواقع والصدق مع النفس وتحمل المسؤولية والخروج من دور الضحية وخلع رداء المظلومية.
وهذا المنطق في مواجهة المأزق بطريقة انفعالية غاضبة لا يزيد عن كونه نوع من التفريغ الانفعالي ناتج عن الغضب والكبت والضغط والإحباط، يؤدي وظيفة تنفيسية لتفريغ شحنة الغضب، وتنفيس مخزون الكبت، وتخفيف ثقل الضغط، وخفض حدة الإحباط. وهو سيناريو مكرر حفظه الناس عن ظهر قلب يُعاد إنتاجه كلما استحكمت حلقات المأزق، فيذهب في مسارين: أحدهما يسير باتجاه جولة جديدة من الردح السياسي والتراشق الإعلامي بين غزة و رام الله تنتهي عندما يتعب أبطال الفيلم المكرر، والآخر يسير باتجاه التهديد بالانفجار في وجه الاحتلال ليبدأ سيناريو تصاعدي قد ينتهي بالحرب فالتهدئة التي تعيد إنتاج الحصار والانقسام والاحتلال حتى يدور الزمن دورته ويعيد التاريخ نفسه .
ومواجهة المأزق بالتفريغ الانفعالي والتصعيد الكلامي لن يؤديا إلى الخروج منه وحل مشكلات غزة وإنهاء معاناة سكانها. بل سيؤدي إلى تعميق المأزق وتزايد المشكلات وتكريس المعاناة. والسؤال المهم هو بعد أن أوسعنا أبا مازن شتماً وسار بالإبل ففعل ما يُريد"ماذا بعد ذلك؟!" بمعنى كيف سنخرج من المأزق ونحل مشكلات غزة ونضع حداً لمعاناة أهلها؟!.
بالتأكيد هذا يحتاج لجهدٍ أكبر من المظاهرات والهتافات والشتائم؛ جهد يبدأ بامتلاك الإرادة السياسية للخروج من المأزق الفلسطيني العام ومأزق غزة على وجه الخصوص، وبالرغبة في تصويب مسار أوسلو باتجاه العودة إلى المسار الطبيعي لشعب تحت الاحتلال لديه حركة تحرر وطني إستراتيجيتها المقاومة وهدفها التحرير والعودة والاستقلال. وجهدٌ لا ينتهي بتصويب معالجة المأزق نحو إيجاد حلول واقعية وجادة وفاعلة لمشكلات غزة تضع حداً لحالة المعاناة والبؤس والكآبة السائدة فيها من أجل حياة كريمة عزيزة للشعب الفلسطيني الصامد والمقاوم في غزة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية