يظل السؤال حول دور المثقف ومكانته في الفعل اليومي والميداني وليس أقل في الفعل السياسي انطلاقاً من خصوصية السياق الفلسطيني سؤالاً مهماً في البحث في المأزق الفلسطيني الراهن. 
لم يعد المثقف فاعلاً، كما لم يعد مشتبكاً وعضوياً، أو أنه حتى لا يبحث عن ذلك أو أصيب بخيبة أمل من محاولاته. 
مضى الزمن الذي كانت فيه نخبة التكوين الأولى في الوعي الوطني الفلسطيني من قادة التنظيمات في نهايات خمسينات وبدايات ستينيات القرن الماضي مجموعة من المثقفين الفاعلين. 
ومضى الزمن الذي كان فيه الانخراط في العمل الوطني ميزة يُبحث عنها ويتم التضحية بالكثير من أجلها. كان المثقفون يشكلون زناراً من الوعي حول شتلة العمل الوطني. هل اختلف الأمر الآن؟
ثمة افتراق واختلاف في العلاقة نتجت عن تكوينات المؤسسات السياسية التي تلت توقيع اتفاق أوسلو. 
فالمثقف الذي كان دوره صياغة وتطوير الوعي وتشبيك السياقات في المساهمة في تكوين الهوية الوطنية، إما وقف جانباً معلناً خيبته مما حدث، وبالتالي انفصاله عن العمل المباشر والاشتباك في التفاصيل، وإما قفز على عربة التسوية وبات مثقف السلطة الجديدة. 
والأخير لم يقفز من باب الانجرار أو التساهل، فالبعض قفز على عربة المؤسسة الجديدة من باب الضرورة التي لابد منها. 
فالهيئات والوزارات الجديدة بحاجة لكادر ليعمل فيها، وليقوم بصياغة أفكارها وتعميم نشاطاتها. هذا لا يعفينا من الإشارة إلى أن الهياكل الجديدة أنجبت بالضرورة أيضاً بعض مثقفيها الذين لولاها لما وجدوا لهم مساحة في النقاش العام. أيضاً هذا لا يعني أنهم باتوا مؤثرين في الحياة الثقافية العامة. فربما أحد أبرز سمات المرحلة السابقة هو هذا الغياب المفجع للمثقف المؤثر، المثقف القادر على المساهمة في صياغة توجهات الناس وتطوير أفكارهم، والتأثير على تنويعات وعيهم، وصقل هويتهم. 
إنه هذا القدر المفقود من الحميمية التي تميزت بها كتابات الأوائل ومساهماتهم في رفد الهوية الوطنية برموزها وإعادة «صب» أسمنت الـ دي أن أي في عروقها. المساهمات الأولى التي تنوعت من كتابات روائية وقصائد وأغان ولوحات ورسومات ومقاربات فكرية وآراء سياسية تثويرية. 
الغياب المفجع ذاته الذي يمكن مراقبة ظلاله تمتد إلى أبعد من ذلك، حيث يمكن القول بغياب حالة الاشتباك خارج حدود ضوضاء السياسة والخلافات الحزبية. 
بمعنى أنه باستثناء الفاعلين في الحقل السياسي وما يترتب عليه من نزاع على السلطة أو لتفسير سبل الحصول عليها والحفاظ على السيطرة عليها، في تراشق طوعي واضطراري على وسائل الإعلام، فإنه ليس هناك ثمة اشتباك حقيقي في مستويات الفعل المختلفة. 
بعبارة أخرى فإن الفاعلين الآخرين اكتفوا بحالة الانطواء والخمول الذاتي، خمول يترتب عليه أو هو نتيجة إما لقناعة بعدم جدوى التأثير وممكناته، أو هو لقناعة بعدم المقدرة على تحقيقه. 
فعلى صعيد المجتمع المدني ثمة غياب كبير وواضح للدور الفاعل الذي كان يقوم به المجتمع المدني في السابق في الحياة العامة في فلسطين.
وربما يفخر الفلسطينيون أكثر من غيرهم بالدور التاريخي للمجتمع المدني ومؤسسات العمل الأهلي في النضال الوطني كما في ملء الفراغ في ظل غياب المؤسسات الوطنية أيام الاحتلال. (هذا لا يعني أن الاحتلال انتهى)، وبالطبع مع ارتهان الكثير من مؤسسات المجتمع المدني لأجندات التمويل وخطط الممولين وغياب النزعة التطوعية والاصطفاف خلف طوابير الرضا والتنافس على المال الخارجي، فإن المجتمع المدني الفاعل والمؤثر والمشتبك بات من مخلفات الماضي التي يتم استذكارها بالحنين. 
كما أن الصحافي المشتبك أيضاً اختفى أمام الصحافي مراسل القنوات الأجنبية والإقليمية. فمثلاً لا يوجد لدينا كاتب مقال ينتظر الناس مقاله، وقلما خرج إلى السطح الرخو للرأي العام مقال أو تحقيق يحركه. بمعنى لا يوجد لدينا كتاب رأي عام. 
مضى الزمن الجميل الذي كانت فيه قراءة المقالات والتحقيقات تثير نقاشاً وسجالاً يدومان حتى العدد القادم من المجلة أو الصحيفة. 
يثور نقاش كثير عن تصدير وربما تفضيل بعض الصور التي لا يمكن أن تخدم القضية الوطنية مثل صورة الطفل الذي لم يبلغ الخامسة وهو يحمل كلاشينكوف أو النسوة مبتهجات برحيل أبنائهن.
ودون الانتقاص من البطولة والنزوع الطوعي نحو التضحية فإن مثل هذه الصور تنتشر في الخارج أكثر من انتشارها في الداخل، حيث يمكن لها أن تكون أكثر فائدة في إذكاء الروح الوطنية والاستعداد للمواجهة. 
والسؤال بالطبع يدور حول من يقوم بتصدير هذه الصورة. إنها الصورة التي يفضلها المحرر الأجنبي الذي يبادر الصحافي والمراسل لإرضائه وتلبية ما يتوقعه. 
عموماً هذا نقاش آخر. لكنه يكشف مدى عمق الأزمة. أيضاً يجب ألا يشكل هذا اتهاماً إذ إن ثمة الكثير من الصحافيين الملتزمين الجادين، لكن الصورة العامة تتطلب مثل هذه الأسئلة، إذ إن الأسئلة بطبيعتها تنبع من حيرة الواقع. 
وإذا أضيف لهذه الحالة تراجع الاهتمام بين أوساط الشباب بالأحزاب السياسية فإن الصورة تبدو أكثر قتامة. 
فمن جهة فإن ثمة تراجعاً في مساهمة الشباب في مؤسسات التنظيمات التي يمكن توقع أن متوسط أعمار قادتها وخلاياها الأولى يزيد على الستين عاماً، كما أن منظماتها الشبابية قد يكون قادتها فوق الأربعين. لكن تتعمق الأزمة حين يتم النظر إلى ضعف ميول الشباب نحو العمل السياسي عبر التنظيمات.
وربما تكون الإحصاءات صادمة في ذلك. المؤكد أن هناك حاجة لمراجعة الكثير في هذا الأمر، بغية الوصول إلى توصيات تستطيع أن تكون على مستوى المطلوب. 
إذا فإن الغياب عن الفعل السياسي لن يكون ميزة. إذ إن أحد أبرز آفات الفعل السياسي الوطني الحالي هو الإصرار على فكرة التكنوقراط بوصفه ميزة. 
ولما كان من المؤكد أن الدولة بحاجة لخبراء فإن البحث عن الخبراء لا يكون على حساب السياسي الفاعل المؤثر في المجتمع. 
بات الأمر أشبه بمن يفضل نزع الدسم السياسي عن السياسة، فالمناضل الذي قاتل لسنوات وسجن وعذب وجرح غير مرغوب به مقابل من أمضى عمره في البحث عن امتيازاته الذاتية. 
هذا لا ينتقص من الفاعلين والخبراء بقدر استنكاره لسوء التقدير، فالإصرار على التكنوقراط يعكس خيبة السياسي من السياسة أيضاً، وهو ما يعكس حالة التراجع في الحالة الوطنية. 
مرة أخرى فإن البحث عن حالة الاشتباك يعني العودة إلى لحظة الحقيقة، على الأقل على مستوى الوعي حتى يتم التحرر من الوعي الزائف.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد