لم تنجح الدول العربية في تاريخها المعاصر بتشكيل وحدة عربية حقيقية، كما فشلت بتشكيل حلف عسكري حقيقي يدافع عن الأمن العربي ومصالح المواطنين العرب في الدول العربية التي وصل الأمر ببعضها إلى حالة الانهيار، ناهيك عن ضياع فلسطين واختطافها وتشتيت أهلها قبل سبعة عقود، مروراً باحتلال الجولان والاعتداء على لبنان وليس انتهاءً باحتلال بغداد وتفكك اليمن والعراق وسورية وليبيا. لم يكن ثمة موقف عربي موحد قادر على أن يكون المعبّر عن مخاوف العرب ولا المتطلع إلى مصالحهم. لم يكن ثمة أكثر من الشعارات والبيانات والتنديدات التي لا تُصرف إلا من سوبرماركت الصمت، وظلت المصالح العربية خارج نطاق التوافق العربي.
ليس هذا فحسب، بل إن المؤسسات التي خلقت بغية تسهيل الوحدة العربية، خاصة جامعة الدول العربية، عجزت عن أن تكون أكثر من مجرد ملتقى سنوي للرؤساء والملوك العرب، يتناقشون فيه على ما اختلفوا حوله، وبالتالي لم ترقَ إلى أن تكون بيت المواطن العربي الحقيقي. 
وأمام التحولات الكبرى التي أصابت العالم وظهور التكوينات الإقليمية المختلفة من أوروبا إلى أميركا اللاتينية ودول شرق آسيا، فإن الجامعة العربية ظلت محاولة عربية متواضعة لا يمكن حتى أن يتم ذكرها في الدراسات النظرية حول التكامل والوحدة، بل ربما كان يشار إليها دائماً كنموذج فشل أكثر منه نموذج نجاح، خاصة حين يتم تحليل مكامن الفشل التي يكون مردها تغليب الدول الأعضاء لمصالحها على المصالح الوحدوية.
وربما كانت تجربة الاتحاد الأوروبي التي لم تبدأ طموحة بل متواضعة، نموذجاً حياً على الضفاف الأخرى من البحر المتوسط. فالتجربة الأوروبية بدأت كشركة لتنظيم إنتاج وتسويق الصلب والفحم بين الدول الكبرى المنتجة له بالقارة المتناحرة في حربين كونيتين أزهقتا أكثر من 70 مليون نسمة، الشركة بدأت تدريجياً في النمو والتوسع بالصلاحيات حتى تحولت إلى اتحاد جمركي، وبدوره تحول إلى كيان اقتصادي موحد. هذا الكيان الاقتصادي أخذ مع الوقت بعض الصلاحيات في حقل الخدمات غير الاقتصادية خاصة المعابر والحدود، وبعد ذلك دخل المكون السياسي عبر ما عرف بالسياسة الأمنية والخارجية المشتركة. ولم يمض وقت طويل حتى كان هناك قوة أوروبية مشتركة ضمن قوات "الناتو" تدخلت في أكثر من حرب لصالح أوروبا الموحدة. بالطبع حين يتم النظر إلى تجربة أو محاولة (لأنها لم ترتق لمستوى التجربة) التكامل الأوروبية لا بد من الإقرار أنها لم تصل إلى المرحلة الجنينية.
ليس بعيداً عن ذلك التحالفات العسكرية خاصة حلف الناتو الشهير. صحيح أن حلف الناتو ظهر في ظل المنافسة بين المعسكر الغربي والشرقي الذي شكل ما كان يعرف بحلف وارسو، لكن حتى حلف الناتو شكل قوة عسكرية مهولة للدفاع المشترك بين دول لا يوجد بينها الكثير المشترك إلا المصالح. والمصالح هي جوهر أي علاقات، فما بالك لو توفرت قيم ومعايير أخرى مثل اللغة والتاريخ والعرق وغير ذلك كما في الحالة العربية.
حتى تجربة الأحلاف العسكرية العربية لم تصل أبعد من المحاولة. وبالطبع فأي تحالف لا يضع فلسطين هدفاً له لن يعبر بأي حال من الأحوال عن القلق الأمني العربي إلا إذا لم تعد فلسطين قضية العرب. صحيح أن بعض المحاولات كانت تظهر بين فينة وأخرى وكانت تأخذ طابعاً أضيق من عربي. لاحظ تجربة مجلس التعاون الخليجي، وهي نظرياً أكثر نجاحاً من تجربة جامعة الدول العربية، لكنها أيضاً فشلت مثلاً في الوحدة النقدية، كما أن الحلف العسكري الذي كانت ربما آخر عملياته في اليمن لم يكن أكثر من تجميع لقوات البلاد المشاركة، ولم تنجح دول الخليج في تطوير هياكل عسكرية موحدة قادرة على تطوير إستراتيجيات وخطط موحدة تعبر عن قلق مشترك. وبشكل عام ظلت المحاولات في نطاق التعبير اللفظي عن الحاجة.
يدور حديث عن توجهات عربية بقيادة سعودية لتشكيل شيء شبيه بحلف الناتو يكون بمثابة الناتو العربي، والأغرب أن يدور حديث عن استجلاب جنرال باكستاني ليشرف على تشكيل هذا الحلف. الخبر أشار إلى أن مهمة الحلف هي مواجهة إيران. بالطبع لا بد من أن يكون هناك حلف عسكري عربي، حلف قادر في ظل تمسك الزعماء العرب بدولهم القومية وعدم رغبتهم في تذويب المصالح القطرية في صهريج المصلحة العربية العليا، على أن يكون على الأقل، أقصد هذا الحلف، مدافعاً عن العرب في حال الاعتداء عليهم. 
بالطبع إن البحث عن الدفاع المشترك (لا بد من أنكم تذكرون أنها كلمة أثيرة في بيانات الجامعة العربية في لحظة تاريخية سابقة) سيشكل خطوة مهمة باتجاه تحقيق حدود دنيا من المصالح ورسم بعض خطوط المستقبل. لكن بالطبع أن يكون الحلف مصمماً لمواجهة المد الإيراني فقط وليس الدفاع عن أمن الشعب العربي فإن هذه وصفة فشل أخرى ستجعل منه محاولة أخرى لعبور جسر مهشم. من المؤكد أن مثل هذا الحلف يجب أن يهدف إلى الدفاع عن مصالح الشعب العربي أمام أي تهديد بما في ذلك التهديد الإيراني ولكن أيضاً هناك تهديدات حيوية أكثر خطورة على العرب يجب أن يكون الحلف قادراً على مواجهتها.
بكلمة أخرى، يجب أن يصار إلى تطوير حلف عسكري عربي حقيقي. أيضاً لا مكان لمثل هذا الحلف دون وجود قنبلة نووية عربية أسوة ببقية الأعراق في العالم، إذ إن توازن الردع أساس في خلق القوة النوعية القادرة على الدفاع الحقيقي عن الشعوب. وعليه فإن الأمر بحاجة لنقاش أوسع حول المصالح العربية، يشمل أيضاً مراجعة مهام الجامعة العربية وإجراء تغيرات هيكلية ومفاهيمية حول الأهداف والدور ترتقي بعمل الجامعة حتى تكون رافعة لأي توجهات عسكرية عربية موحدة، وتكون هذه التوجهات معززة لها. ما لم يصار إلى ذلك فإن الأمر لن يعدو عن كونه حلم يقظة آخر.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد