يصادف هذا العام مرور ستين عاماً على أول الاتفاقيات المؤسسة للاتحاد الأوروبي وذلك في العام 1957 أو ما عرف باتفاقية روما الموقعة في 25 آذار 1957، وإن كانت النواة الأولى لشركة الفحم والصلب قد تمت بين الدول الست المؤسسة في العام 1951، وصولاً إلى اتفاقيات ماسترخت عام 1992 التي حولت المجموعة الاقتصادية الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي، وبعد ذلك اتفاقية أمستردام عام 1997 التي عمقت التكامل الأوروبي، وبعدها اتفاقية نيس في العام 2001 التي حلت المشاكل الناجمة عن توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً، انتهاء باتفاقية لشبونة في العام 2007 التي زادت من صلاحيات مؤسسة الوحدة الأوروبية.
خلال ذلك، شهد الاتحاد توسعاً كبيراً باتجاه الجنوب والشرق، كما شهد توسعاً في مجال صلاحيات مؤسساته، الأمر الذي نقله من مجرد وحدة واهية إلى واحد من أهم الفاعلين في مشهد السياسة الكونية.
ويشكل الاتحاد الأوروبي حالة فريدة في العلاقات الدولية وتجربة تستحق الدراسة والتأمل. فمن ناحية كانت سرعة وثبات التحول المهول الذي حدث في أوروبا المدمرة المنهكة والممزقة بعد الحرب العالمية الثانية السمة الأبرز في التاريخ الأوروبي المعاصر، حيث استطاعت أوروبا تجاوز كل الآلام والعقبات والقفز مرة أخرى إلى حالة السلم والرخاء الاقتصادي الذي سيجعل من اقتصادها مع انتهاء القرن العشرين الاقتصاد الأقوى في العالم.
لقد شكلت الحرب العالمية الثانية مفصلاً مهماً ومنعطفاً حاداً في مقاربات الأوروبيين لواقعهم ولتعاطيهم مع المستقبل، فالحرب باتت غير مرغوبة وصارت غاية المشروع السياسي الأوروبي هي تجنب الحروب ومنع اندلاعها، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا إطلاق عجلة التعاون الاقتصادي في واحدة من أهم قطاعات الإنتاج تغذية للحروب والمتمثل بالحديد والكربون. كانت فكرة بسيطة لكنها انتهت لتكون واحدة من أهم مشاريع النجاح السياسي والاقتصادي في القرن العشرين. تمثلت الفكرة في تحييد هذين القطاعين من المنافسة بين الدول الأوروبية المنتجة لهما خاصة في حوض الألزاس واللورين لمنع المنافسة الفرنسية الألمانية التي كانت برميل البارود الذي فجر الحربين العالميتين عامي 1917 و1937. والمشروع الذي بدأ بكونه شركة تنسيقية تحول إلى مشروع اقتصادي ذي أبعاد سياسية ومن ثم أمنية. وتوسعت عضويته من 6 موقعين أساسيين ليضم سبعة وعشرين دولة مرشحة للازدياد في السنوات الخمس المقبلة.
كانت غاية المشروع التكاملي الأوروبي هي التسامي على جراحات الماضي وتحويل مصادر الضعف الأوروبي إلى مصادر قوة. تحقق هذا بالفعل لأوروبا من خلال العمل الجاد على بناء وحدة اقتصادية خاصة في القطاعات التي تشترك فيها الدول الأعضاء باهتمامات مشتركة.
طوال ستين عاماً كان تكامل أوروبا يتم باتجاهين متوازيين: تعميق وتوسيع. يتمثل الأول في توسيع الاتحاد بضم دول جديدة إليه ويتمثل الثاني بتعميق التكامل وتطويره في حقول مختلفة لتمتين المؤسسة الوحدوية. ويرتبط هذان الاتجاهان تحديداً بمصير أوروبا.
فالوحدة الأوروبية التي بدأت بين ست دول انتهت الآن لتصبح بين سبعة وعشرين دولة. والوحدة التي كان ينظر إليها على أنها امتياز لدول أوروبا الغربية صارت مفتوحة لكل الدول الأوروبية خاصة بعد سقوط جدار برلين وتفكك المنظومة الشرقية. كما أن أوروبا التي انقسمت بين دول غربية وأخرى شرقية، وبين دول ديمقراطية وأخرى غير ديمقراطية وبين رأسمالية واشتراكية وما إلى غير ذلك صارت موحدة قادرة على خلق لغة مشتركة والبحث عن مستقبل موحد لا تتحارب فيه ولا تكون قوة عدوانية.
وفي الوقت الذي تبحث بروكسل تمدد عضويتها شرقاً حتى تركيا لتصبح حدود الاتحاد الأوروبي مجاورة لقلب آسيا ولأكثر المناطق اشتعالاً في العالم (الشرق الأوسط) فإن السؤال المفاهيمي والإجرائي في نفس الوقت هو: أين تنتهي الوحدة الأوروبية؟
فإذا ما قدر للوحدة الأوروبية أن تستمر في النمو الجغرافي لتضم تركيا وربما روسيا وجورجيا فإن كمية التنوع الثقافي والاختلاف السياسي والتطلعات ستشكل تحدياً كبيراً لأوروبا داخلياً والأهم خارجياً. إذ إن هذه الدول ستجلب معها حدوداً جديدة بمشاكل جديدة بسياسات خارجية جديدة ستجعل اشتباك أوروبا في العالم الخارجي أكثر صعوبة، ما سيخلق تحديات أخرى ومختلفة للاتحاد الأوروبي سيكون عليه أن يجد إجابات مختلفة ومناسبة لها.
مع نجاح المشروع الوحدوي الأوروبي ظهرت مجموعة من الأسئلة المتعلقة بمستقبل هذا المشروع وممكنات استمراره وتطوره في نفس الوقت. فهو كيان سياسي وبناء مؤسساتي في طور التكوين والتطور المستمر يزاد بنيانه تعقيداً مع توقيع المزيد من الاتفاقيات التفصيلية ومع انضمام مزيد من الدول المرشحة للعضوية وتلك التي ترغب بالترشح. والسؤال الكبير يتعلق بالماهية النهائية التي ستكون عليها صورة هذا الاتحاد. هل يمكن له أن يستمر في التوسع الجغرافي والتعمق المؤسساتي في القطاعات كافة إلى الأبد؟ أين ستصل حدود الاتحاد؟ إلى أين ستنتهي مهام مؤسساته؟ هل ستطال هذه المهام كل جوانب الحياة المعيشية والسياسية والأمنية للمواطنين الأوروبيين؟ وإذا تم ذلك فهل سيترك هذا شيئاً للدولة الوطنية؟ وما هي علاقة الدولة الوطنية مستقبلاً بالاتحاد؟ وإلى أي مدي ستقبل الدول الأعضاء توسيع مهام المؤسسات الوحدوية على حساب مهامها؟
بيد أن الرحلة لم تكن بلا مصاعب، ربما أن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد الاستفتاء الذي أجرته العام الماضي 2016 وما سيترتب عليه من خروج واحدة من كبريات دول الاتحاد ومصدر من مصادر نفوذه الدولي مثل بريطانيا، يعيد الأسئلة الخفية حول مستقبل التكامل الأوروبي. يضاف إلى ذلك الأسئلة الكبرى حول مدى التوسع في السياسة الخارجية في ظل الأزمات الكبرى التي بات تصديرها سهلاً إلى أوروبا خاصة ما يعرف بتصدير الإرهاب، والتدخل الخارجي. بعبارة أخرى يبدو أن القوة الناعمة أو القوة المدنية التي كانت يتفاخر الاتحاد بها، لم تعد تكفي لتحمي الوحدة الأوروبية أو مواطني القارة العجوز.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية