اتصال هاتفي من ترامب لأبي مازن ودعوة للبيت الأبيض ولقاء مستشار ترامب لإحياء المفاوضات جيسون غرينبلات مع نتنياهو وأبي مازن، كلٌ على انفراد، لاستطلاع المواقف؛ خلقت أجواء من الارتياح اللحظي في رام الله ، فبعد أكثر من أربعة وخمسين يومًا من وجود ترامب في البيت الأبيض اجتمع أو اتصل خلالها مع معظم رؤساء دول المنطقة، وبعد كل هذا الاحتضان لإسرائيل والموقف المهدد تجاه من يشهّر بها أو ينوي عزلها أو يستخدم المؤسسات الدولية لمهاجمتها، وبعد ما يشبه المقاطعة والتنكر للقيادة الفلسطينية؛ ها هو أخيرًا بات يرى الفلسطينيين ويهاتفهم ويتحدث إليهم برفق بحسب مصدر إسرائيلي، ممّا جعل الفلسطينيين يتنفسون الصعداء، وربما يحتفون قليلًا قبل ان يعود لهم التوتر مرة أخرى أثناء التجهيز للقاء المرتقب وإعداد خطة إنجاح اللقاء، والتملص من دفع أية تنازلات وعدم تحمل مسؤوليات إفشال صفقة ترامب العظمى.

بتقديرنا ان كلًا من الرئيس عباس ورئيس الوزراء نتنياهو يشعران بالقلق والتوتر وعدم الارتياح حيال جهود ترامب ومساعديه لإعادة إحياء المفاوضات، لخشيتهما من أن عودة المفاوضات برعاية ترامب ستضطر كلًا منهما لدفع ثمن ما، وبطبيعة الحال المخاوف أكبر لدى الفلسطينيين منها لدى نتنياهو.

الرئيس عباس الذي رفض استمرار المفاوضات المباشرة برعاية أوباما - كيري، واعتبرها عبثية إذا لم ترتبط بمرجعيات وجدول زمني، وإذا لم تضمن وقف الاستيطان الذي يحدد مسبقًا نتائج المفاوضات، وتبنى نهج المقاومة الديبلوماسية والقانونية في الصراع السياسي مع إسرائيل وفي التصدي لاستمرار توسعها الاستيطاني وتنكرها لأبسط الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، فطرق - رغم التهديدات - أبواب مجلس الأمن والأمم المتحدة والمنظمات الدولية وسعى لتدويل الحل، وكان بذلك يغلق الباب على عودة الصيغ السابقة للمفاوضات المباشرة؛ اليوم يقف أمام ضغط هائل للعودة للمفاوضات المباشرة برعاية ترامب وطاقم مستشاريه من الصهاينة الأمريكان، ضغوط مقرونة بتهديد فعلي بأن تمارس إدارة ترامب صلاحياتها ونفوذها ضد السلطة الفلسطينية في كل ميدان ومجال وكل ساحة من ساحات العمل.

ربما كان عباس الأقل انفعالًا من بين مستشاريه وطاقمه لمكالمة ترامب، فهو يدرك ان اتصال ترامب به هو اتصال اضطراري، فمن يجلس في البيت الأبيض ويريد ان يعالج ملفات الشرق الأوسط ويعلن عزمه على إنهاء الصراع؛ فلا بد له - رغم كل نفوذه وسطوته - من الاتصال مع رئيس الشعب الفلسطيني، فهو لا يستطيع القفز عنه، وهذا ما فهمه ترامب متأخرًا بمساعدة رئيس المخابرات الأمريكية الذي كان أول من فتح قناة اتصال مع الرئاسة.

ويدرك عباس أيضًا ان ترامب - المزاجي والمتحمس وضعيف الإلمام بتعقيدات الصراع وبمواقف نتنياهو الحقيقية - سيضغط بشدة للعودة إلى المفاوضات المباشرة من نقطة الصفر، متبنيًا موقف نتنياهو على الأقل فيما يتعلق بشعار العودة للمفاوضات دون شروط، أي ربطها بالمرجعيات ووقف الاستيطان، والتوقف عن المواقف أحادية الجانب - حسب نتنياهو - المتعلقة بالذهاب للمؤسسات الدولية، وبهذا فإن العودة للمفاوضات المباشرة بشروط ومعايير ترامب - نتنياهو، ومع كل هذا الانحياز الترامبي المعلن لإسرائيل، سترتبط بمخاطر رئيسية عديدة:

الأول: التراجع عن الموقف الفلسطيني الذي تبلور من العودة للمفاوضات المباشرة دون مرجعيات ووقف للاستيطان وإطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى.

الثاني: إجهاض المساعي الفلسطينية والدولية الصديقة في المؤسسات والمنظمات الدولية وإحباط كل المساعي والجهود لإدانة ممارسات الاحتلال ومحاكة مجرميه والالتفاف على مخرجات قرار مجلس الأمن الأخير (2334) وإفراغه من مضمونه.

الثالث: أن تشكل المفاوضات المباشرة مظلة للتوسع الاستيطاني.

الرابع: عندما ستصل المفاوضات إلى طريق مسدود، ستحمل إدارة ترامب الفلسطينيين مسؤولية إفشال المفاوضات بما ينطوي عليه ذلك من مخاطر.

الخامس: من الواضح أن أية صفقة بلغة ترامب سيقترحها الأمريكيون للتفاوض عليها أو في نهاية التفاوض لن تلبي الحد الأدنى المقبول فلسطينيًا، والقلق الأكبر ان تتحول الدول العربية إلى أداة ضغط.

أما إسرائيليًا فتبدو بالتأكيد مخاوفهم أقل كثيرًا، وهي تتعلق بشكل كبير - بالنسبة لليمين الإسرائيلي - بالعودة الأمريكية للتمسك بحل الدولتين، وفرض قيود على التوسع الاستيطاني، وبتهديد انكشاف الموقف الإسرائيلي اليميني الرافض لأي حل سياسي يتم بموجبه إقامة دولة فلسطينية.

نتنياهو الذي اضطر بضغط من إدارة أوباما السابقة إلى تبني حل الدولتين في خطاب "بار ايلان"، صحيحٌ انه تبنٍ انطوى على الكثير من الغموض والعمومية والاشتراطات، لكنه كان بالنسبة لزعيم حزب "الليكود" تراجعًا اضطراريًا عن أيديولوجية الحزب؛ قد شعر مع قدوم ترامب بقدرته على التحلل من حل الدولتين، مندفعًا إلى ذلك بحميمية العلاقة مع ترامب وطاقمه، وتعيين السفير المتحمس لتأييد الاستيطان ديفيد فريدمان، وأقوال ترامب عن عدم تقديسه لحل الدولتين أو الدولة الواحدة، وما فسره اليمين الإسرائيلي عن انه تراجع أمريكي عن فكرة حل الدولتين، بينما العودة للمفاوضات تفرض مجددًا العودة لتبني خطاب حل الدولتين - ولو كضريبة كلامية - فضلًا عن تقييد الاستيطان، وهو المصطلح الذي بات يتم الحديث عنه كبديل لوقف أو تجميد الاستيطان، تقييد الاستيطان مفهوم ينطوي على الكثير من الغموض، غموض يفرض تنسيقًا مسبقًا مع البيت الأبيض في كل نشاط استيطاني، الأمر الذي سيمنح البيت الأبيض حق الفيتو فيما يتعلق بالاستيطان.

ويخشى نتنياهو في نهاية الأمر ان يضطر الضعف الفلسطيني والعربي - تحت وطأة مطرقة ترامب الثقيلة وشهيته لإنجاح الصفقة - أن يقبلوا بتقديم تنازلات تكشف حقيقة الموقف الإسرائيلي الذي لا زال يريد التمسك بإدارة الصراع، بما يسمح بفرض واقع جديد يمنحهم أرضًا جديدة.

إسرائيل نتنياهو كانت ترغب في أن يهمل ترامب ملف الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، ويركز أكثر على الملف الإيراني، وعلى خلق جبهة سنية عربية معتدلة مع إسرائيل، بما في ذلك تطبيع علاقات بعيدًا عن شرط البدء بالملف الفلسطيني أولًا.

ترامب - الذي يبدي حماس ًا كبيرًا لإنهاء الصراع بصفقة متأثرًا بصفقات العقار، صفقة تتيح للطرفين الشعور بالفائدة والرضى - لا يبدو ان حماسه يقف على أرض صلبة ومطلة على تفاصيل وتعقيدات الصراع ومواقف الأطراف، فلو كان كذلك لما تحمس منذ بداية ولايته للسباحة في ما يسمي بالمستنقع، ونعتقد ان هذا الحماس سيفتر تدريجيًا كلما تعلم وفهم أكثر حقيقة الموقف الإسرائيلي، وفي النهاية، وبعد ان يكتشف حقيقة موقف نتنياهو، سيسلك نفس الطريق الذي سلكه سابقوه، بالتراجع وتبني الموقف الإسرائيلي، وصب جام غضبه على الطرف الأضعف، وهم الفلسطينيين.

تقديرنا أن طاقم ترامب سينجح بطريقة ما في إعادة الأطراف إلى طاولة المفاوضات، والسؤال الأهم بالنسبة للرئاسة الفلسطينية سيكمن في "كيف يمكن تقليل الخسائر والخروج من مأزق المفاوضات بأقل تكلفة؟".

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد