واجبات والتزامات مشتركة تجمع بين المؤسستين الاعلامية والأمنية يجب إدراكها والوعي بها من اجل الإنسان، والحقيقة، وكذلك الحقوق والحريات التي تسهم المؤسستان الاعلامية والأمنية في تعزيزها واحترامها، وإن الحالة المتوترة التي قد تثور بينهما، هي حالة استثنائية تفرضها الظروف التي جعلت الاعتبارات السياسية والهواجس الأمنية تتغلب على اعتبارات الحقوق والحريات، وأفضت إلى وقوع انتهاكات تطال الحريات الإعلامية وحرية الرأي والتعبير، وقيام الأجهزة الأمنية باستدعاء الصحافيين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي والتحقيق، وفرض قيود على مهامهم في متابعة الأحداث، أو حتى إصدار قرارات إدارية بإغلاق مكاتب إعلامية، أو مصادرة مواد إعلامية ومنع نشرها، وأشكال أخرى لانتهاكات طالت المؤسسة الإعلامية التي تعكس عافيتها وسلامتها، عافية وسلامة بنيان المجتمع، وصحة أسسه وقواعده القائمة على التعدد والتنوع واحترام قيم المساواة وعدم التمييز.

إن هذه الانتهاكات يجب التصدي لها، ومضاعفة الجهد لمنع تكرارها، ليس فقط من خلال مساءلة ومحاسبة من يقترفها، بل أيضاً من خلال إثارة الوعي اليقظ بعمق وأهمية الرسالة الأمنية والرسالة الإعلامية اللتان تجمعهما قيم ومبادئ مشتركة أكثر مما تفرقهما، فكلتا المؤسستين يجمعهما واجب وهدف مشترك ينظمه القانون ويحميه، وهو واجب النهوض بالمجتمع، وتنميته، وتمتين حصونه من الداخل، والحفاظ على كرامة الإنسان المتأصلة فيه، وحماية حقوق المجتمع وحرياته.

إن المؤسسة الإعلامية تهدف إلى كشف الحقيقة والوصول السلس للمعرفة وللمعلومات، وهذا الدور ينظمه القانون ويحميه، فقد أحاط القانون الدولي لحقوق الانسان، وكذلك منظومة التشريعات الفلسطينية، الحريات الإعلامية وحرية الرأي والتعبير، بالحماية والرعاية،  وان لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير واعتناق الآراء دون تدخل أو قيود إلا تلك التي يفرضها القانون، بشرط أن لا تعرض  تلك القيود الحق نفسه للخطر، وان لا يتم المساس بأي وسيلة إعلامية بواسطة قرار إداري صادر عن جهة تنفيذية، بل بواسطة حكم قضائي، وامتدت حماية القانون لتشمل مظلته المؤسسات الاعلامية ذاتها، وكذلك الصحافيين أنفسهم.

ولقد عزز انضمام فلسطين لاتفاقيات حقوق الإنسان من اتساع مساحة التمتع بالضمانات المتعلقة بالحقوق والحريات الاعلامية، وحماية المؤسسات الاعلامية والعاملين فيها، وألزم هذا الانضمام دولة فلسطين لمراجعة تشريعاتها وسياساتها وخططها وبرامجها ذات الصلة بحرية الرأي والتعبير، وموائمتها مع الاتفاقيات التي انضمت إليها، واتخاذ التدابير المناسبة للوفاء بهذه الالتزامات، وتعزيز مبدأ المساءلة والمحاسبة، والقيام بغل يد الأجهزة الأمنية عن ملاحقة  الكتاب والصحفيين والمدونين ونشطاء الاعلام الاجتماعي، ومنع أي تقييد يمس بحقوق وحريات الصحافيين والإعلاميين أو يشكل مساساً بعملهم الصحافي، وتنزيه مشهد الحريات على المستوى الوطني من شوائب صور المعالجات البوليسية.

إن أصحاب الواجب المكلفين بإنفاذ القانون عليهم الالتزام بأحكام القانون واحترامها من خلال عدم القيام بأي إجراء ينطوي على تقييد للحقوق والحريات، ووقف، ومنع، وقمع أي طرف يسعي لتقويض هذه الحقوق أو يحد من ممارستها، وعدم التذرع بأي  ظرف استثنائي لتبرير فرض قيود على حرية الرأي والتعبير أو خنق الحريات الاعلامية، أو القيام بأي إجراء قد يؤسس للاعتقاد بأن المخاوف البوليسية لها الغلبة على اعتبارات حقوق الإنسان وكرامته وفي مقدمتها حقه في الكلام والتعبير عن الرأي.

ومع اتساع نطاق فضاء وأدوات ممارسة الرأي والتعبير، ومع تضاعف صور وأشكال الثورة الاعلامية وفي مقدمتها وسائل تواصل الإعلام المجتمعي أو ما بات يعرف بإعلام المواطن، الذي يتيح لجميع الأفراد ممارسة كافة فنون العمل الصحافي عبر بوابات الفيس بوك وتويتر، واليوتيوب، والبرامج التطبيقية المتاحة على الهواتف الذكية، فإن المسؤوليات تتعاظم وتكبر لدى أصحاب الواجبات وخصوصاً المكلفين بإنفاذ القانون والعاملين في الأجهزة الأمنية.  

وفي المقابل، فإن هنالك واجب آخر ملقى على عاتق الصحافيين والإعلاميين والمؤسسات الإعلامية، واجب يتقاطع مع واجبات المكلفين بإنفاذ القانون وينسجم معها، هذا الواجب يتمثل في ضرورة التزام الصحافيين والإعلاميين بمعايير العمل المهني، والوفاء باستحقاقات شرف المهنة، ومتطلبات الانحياز للحقيقة، والابتعاد عن التضخيم أو التعتيم، وتغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة، والمصالح الوطنية على الحزبية، والموضعية على الشخصية.

إذن، ومن خلال هذا الوضوح في فهم طبيعة الواجبات والمسؤوليات المشتركة للمكلفين بإنفاذ القانون وكذلك العاملين في الحقل الإعلامي، تتضح قوة العلاقة بين المؤسسة الأمنية والمؤسسة الإعلامية، وأن ما يجمعهما أعمق وأكبر مما يفرقهما، فكلتاهما تسعيان للوصول إلى الحقيقة وحمايتها، وكلتاهما تحظيان بأدوار ومهام ومسؤوليات وواجبات ينظمها القانون ويحميها، لكن الأمر يحتاج إلى آليات لإدارة المشتركات من خلال أنشطة بناء الوعي والمعرفة والقدرات، وأثاره مبادرات التوعية والتدريب التي تستهدف المكلفين بإنفاذ القانون، والعاملين في المؤسسة الأمنية لإحداث تغيير ايجابي في توجهاتهم لصالح الوعي باحترام وحماية الحقوق والحريات الإعلامية والمؤسسات الاعلامية  والعاملين فيها

 وبالتوازي مع ذلك، من الضروري عقد مبادرات التثقيف والتوعية للصحافيين حول دور وواجبات ومسؤوليات وحقوق المكلفين بإنفاذ القانون، والقيام بكل ما من شأنه تعزيز المعرفة بعمق ونبل وإنسانية ووطنية المهام التي يقوم بها المكلفون بإنفاذ القانون من اجل حفظ النظام العام، والأمن العام، ومحاربة الجريمة والقبض على مقترفيها وتقديمهم إلى العدالة، وإدراك وتقدير جهودهم المضنية من أجل توفير متطلبات السلم والسكينة والأمان في المجتمع، والعمل على توضيح أبعاد الرسالة الأمنية في عمقها الوطني والحقوقي والإنساني، لتنعكس إيجاباً في تصور وممارسة العاملين في المؤسسة الإعلامية.

نأمل أن تخلو التقارير التي تصدرها المؤسسات الحقوقية من أي انتهاكات تتعلق بالمساس بحرية الرأي والتعبير أو الحريات الإعلامية، وهذا أمر منوط بقيام المكلفين بإنفاذ القانون بواجبهم في احترام وتطبيق القواعد القانونية الملزمة وواجبة الإتباع إزاء الحريات الإعلامية، وان تتم مساءلة ومحاسبة كل من ينتهك أحكام القانون، أو من يتعسف في استخدام السلطة. وبالمقابل فإن الأمر منوط أيضاً، بإتباع الصحافيين والإعلاميين، والكتاب والمدونين، وقادة الرأي ونشطاء الإعلام المجتمعي، لمعايير وقواعد وأصول العمل المهني، والوفاء بالتزاماته.

لا ينبغي السماح لحالة الارتباك العرضي بين المؤسستين الأمنية والإعلامية أن تطغى على جمال المشتركات الأقوى والأعمق بينهما، والتي تستحق مزيداً من الجهد لتمتينها بما ينعكس إيجاباً على حقوق الإنسان من  خلال فتح قنوات الحوار والنقاش والمشاركة وتبادل الآراء بين المؤسستين، وتمكين وتطوير وتنمية قدرات العاملين فيها وزيادة وعيهم بلغة حقوق الإنسان والالتزامات الناجمة عنها، بالتزامن مع توافر تشريعات وقوانين تنظم آليات الوصول السلس للمعلومات.

 ان العلاقة المرتكزة إلى نهج قائم على حقوق بين المؤسسة الأمنية والإعلامية سوف يعزز من الإحساس بالكرامة، ويزهر سلاماً وحريات.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد