بعد إعادة سيطرة النظام السوري على مدينة حلب، ومع قرب إكمال سيطرة النظام العراقي على مدينة الموصل، يمكن القول: إن تحولاً حاسماً قد حدث فيما تشهده المنطقة من صراعات سياسية دموية منذ بضع سنين، ذلك أن كلاً من حلب والموصل، تمثلان عملياً المدينة الثانية في كل من العراق وسورية، كما أنهما تشكلان مركزين بسمة طائفية، أو بوضوح أن حلب والموصل هما مدينتان بأغلبية سنية، لذا فإنهما حين كانتا خارجتين عن سيطرة النظامين الشيعي والعلوي في العراق وسورية، كانتا تفتحان الباب على تقسيم كل من العراق وسورية بين الطائفتين، في حين أن إعادة السيطرة عليهما مع «طرد» معظم سكانهما السنة يعني، أن طهران المركز الشيعي العالمي، نجحت في ترجيح ضم كل من العراق وسورية كاملتين ضمن طموحها الإمبراطوري.
المهم هو أن تحولات حاسمة حدثت فيما سمي بمسار «الربيع العربي» منذ انطلق في كانون الثاني عام 2011، فبعد أن سار سلمياً في كل من تونس ومصر، دخل أتون الصراع العسكري المسلح الدموي في ليبيا حيث نجح التدخل العسكري الغربي، دون وجود مصدّات إيرانية أو روسية له في إسقاط وحتى قتل معمر القذافي، أما في اليمن وسورية فلم ينته الصراع بعد، أي أن التدخل الكوني ومن ثم الإقليمي حدث في ليبيا ثم سورية فاليمن، وإذا كان أمر العراق بحكم أن إسقاط صدام حسين كان قبل سنوات، وتفردت به الولايات المتحدة، فإن التدخل في اليمن كان إقليمياً، فيما كان في سورية دولياً/ إقليمياً، حيث قابلت دول الخليج التدخل الإيراني من تحت الطاولة، أي بالدعم اللوجستي، وقابلت روسيا التدخل السياسي الأميركي بتدخل سياسي ثم عسكري.
المنحى الثاني كان في ظهور «داعش» الذي تجاوز الحدود الجغرافية، أي حدود «سايكس بيكو»، لتشير _ لأول مرة _ إلى هدف بعيد من وراء فتح المجتمعات العربية، وهو محاولة إقامة دول طائفية في الشرق الأوسط، تحقق غايتين: الأولى، المزيد من إضعاف العرب لإبقاء إحكام السيطرة، والثانية، تبرير المطالبة «بيهودية» دولة إسرائيل.
فـ»داعش» لم تشكل تجاوزاً لحدود الكفاح الشعبي بإسقاط الأنظمة المستبدة ديمقراطياً، كما حدث في تونس ومصر، وفتح بوابة الصراع المسلح الدموي، وكان قد سبقها لذلك ما حدث من فصل دموي في ليبيا وفي سورية نفسها، ولم يؤدِ فرض خيار ماهر الأسد بمواجهة المعارضة الشعبية / السورية السلمية بالنار، إلى ظهور الجيش الحر، ومن ثم جماعات الإسلام السياسي الجهادية فحسب، بل إن «داعش» ظهر كتنظيم يرفع شعار «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وما «داعش» إلا اختصار لهذا الاسم.
وفي الحقيقة، فإن «داعش» الذي ورث تنظيم القاعدة، ورث بالأساس ليس سلفيته الجهادية وحسب، بل عبوره للقارات والحدود، فهما لم يقدمان الصراع مع إسرائيل والغرب، على الصراع الداخلي على السلطة مثلاً، بل فعلتا العكس، كما أنهما وربما بحكم أن عضويتهما لا تقتصر على جنسية أو قومية أو إثنية محددة، فإنهما اتخذا طابعاً عقائدياً غير وطني، أو متجاوزاً للوطنية والقومية.
وحين تعرض تنظيم القاعدة لضربة قاصمة، بعد سقوط نظام طالبان في أفغانستان، الذي كان حليفه ويقيم على أرضه، ظهر تنظيم القاعدة في العراق، أيام أبو مصعب الزرقاوي، فيما سمي بدولة الأنبار، وهي محافظة سنية، استغل تنظيم القاعدة ما تعرض له من قمع ومن جرائم من قبل النظام الشيعي وميليشياته، بعد إسقاط نظام صدام، وبعد مصرع الزرقاوي ظهر «داعش» في شمال غربي العراق وشمال شرقي سورية، إضافة إلى مناطق مختلفة، في بعض ليبيا، سيناء، وجنوب شرقي سورية.
الآن وهو في طريقه للخروج بشكل تام من العراق وبشكل شبه كامل من سورية، سينتقل مركز «داعش» إلى مكان آخر، وربما يكون سيناء، التي ما زالت تشهد صراعاً أمنياً بين بيت المقدس، المعلن ولايته لـ «داعش» وبين الدولة المصرية.
ولعل محاولة توجيه الأنظار إلى ما يمكن أن يكون وريث «داعش» الإقليمي، من خلال إطلاق الصواريخ على إسرائيل، وهذا حدث أمس، وقبل بضعة أسابيع، ما يشير إلى هذا الاحتمال، وإلى إثارة السؤال عن مغزى تحول «التلاسن العنيف» المعتاد بين إسرائيل و غزة إلى ساحة سيناء، التي بذلك تتحول إلى عمق أمني لغزة بعد أن كانت غزة هي العمق الأمني لمصر.
الصورة الآن بعد سنوات الحروب الداخلية، التي أظهرت حجم التدخل والتداخل بين ما هو محلي وإقليمي ودولي، تُظهر أن إرث وتراث «سايكس بيكو» لم يعد «مقدساً» ولا خطاً أحمر من قبل أحد، لذا فربما تنتهي هذه الزلازل السياسية الطاحنة التي تعصف بالشرق الأوسط منذ سنوات إلى انحرافات حدودية، ليس بالضرورة بإعادة تشكيل الهيكل السياسي على أساس دول طائفية، بل ربما يتضمن الأمر أيضاً بقاء بعض الدول المركزية، مع ظهور «دويلات» طائفية أو محميات، أو حتى تعديلات حدودية واسعة، بضم بعض المناطق لبعض الدول، فما اندفاع القوات التركية بعد سيطرة النظام السوري على حلب وعشية اندحار «داعش» من الموصل نحو الباب وما بعدها، إلا دليل على الذهاب بهذا المنحى.
أما إصرار بعض الدول والأطراف على التوتر الأمني في سيناء، فربما من أجل مواجهة مرحلة ما بعد طي حل الدولتين، ولصدّ حل الدولة الواحدة، بالترويج للحل الإقليمي وإحياء مشروع التبادل الثلاثي للأراضي بين مصر، وإسرائيل وفلسطين، بحيث تقام دولة فلسطين في غزة الموسعة، وما يرجح احتمالات الانحرافات الحدودية هو الصراع على آبار الغاز المكتشفة بكثرة في شرق المتوسط من شماله إلى جنوبه، كذلك الصراع على موانئه التي ستكون مراكز لتصديره إلى المستهلك الأوروبي.
Rajab22@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية