كتبتُ في الأسبوع الماضي أن إسرائيل قد تكون فعلاً تحوّلت من دولة للجيش والأمن إلى دولة للاستيطان والمستوطنين، أو هي في عملية تحوّل «تاريخية» بهذا الاتجاه.
مع قرار « الكنيست » الأخير والذي شرّع رسمياً سرقة الأرض الفلسطينية فان اسرائيل دخلت بالفعل في مرحلة ضم للأرض الفلسطينية المحتلة في الضفة ـ كما قال هرتسوغ ـ وهي بهذا القرار أنهت «عملية السلام» وشرعت في قضم أكثر من 60% من الأرض، وهي لن تتردد ـ على ما يبدو ـ في تحويل ما تبقى من الضفة إلى ثلاثة أو اربعة منعزلات مسيطر عليها أمنياً واقتصادياً.
باختصار فإن قرار الضمّ أصبح على جدول الأعمال من الناحية التنفيذية، وتم إغلاق ملف الدولتين، وأصبح «الحل» الإسرائيلي هو الحل القائم على الأرض، وتحولت كل الحلول الأخرى إلى مجرد شعارات سياسية تفتقد إلى القدرة على استمرارها ناهيكم عن القدرة على تحقيقها.
بالمعنى الموضوعي أصبح إفشال الحل الإسرائيلي هو الموضوع الجوهري، وأصبحت الاستراتيجيات الوطنية الموجهة لهذا الإفشال بالذات هي الاستراتيجيات الواقعية الوحيدة المطروحة على جدول الأعمال الوطني.
الشيء الرئيس هنا هو معرفة وإدراك طبيعة المتغير الذي نحن بصدده والذي لا بد من رؤيته جيداً لمواجهته.
عملت إسرائيل طوال العقدين الماضيين على إفشال حل الدولتين باعتبار أن هذا هو خيار الشعب الفلسطيني الذي يلقى دعماً دولياً وإقليمياً هائلاً.
عمدت إسرائيل في مواجهة هذا الحل إلى الحرب «السياسية» أولاً، وعلى خطة متدرّجة لإفشال هذا الحل إجرائياً وتنفيذياً، وكانت تحاول طوال هذه الفترة لزيادة «الجرعة» الإجرائية كلما توفرت لها الفرصة، وكلما كان الوضع الداخلي المتحول دائماً باتجاه المزيد من التطرف يميناً يدفع ويضغط بهذا الاتجاه، وكلما كان الوضع الإقليمي والدولي «مهيئاً» «لتجرّع» ذلك، أو كلما كان مشحوناً بانشغالات كبيرة أخرى.
كانت الخطط الإسرائيلية على هذا الصعيد تتحيّن الفرص إذن لتحويل تلك الحرب السياسية إلى نوع من المشاغلة، وتحويل السياسة الاستيطانية على الأرض إلى السياسة «الوحيدة» التي تفشل حل الدولتين واقعياً، وتقضي عليه بالكامل بعد أن «تبارك» القيادة الأميركية الجديدة هذا التوجه من الناحية العملية.
الاختلال الذي نتج عن مجيء ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة فتح شهية اليمين القومي المتطرف في إسرائيل إلى المسارعة باتجاه «الحسم».
أما وضع الإقليم العربي والتحديات التي تواجهها أوروبا فهي اختلالات سبقت مجيء ترامب وكانت موجودة في صلب التفكير الإسرائيلي باتجاه هذا الحسم، ولهذا بالذات فإن إسرائيل في توهم اللحظة وفي قراءة المتغيرات قد تغامر في كل شيء.
كل شيء سيعتمد في نهاية الأمر على ردود الأفعال المرتقبة على هذا «الحسم» وهذا هو الشيء الأهم في مواجهته.
إذا بقي رد الفعل الفلسطيني أولاً، ثم العربي ثانياً، ثم الدولي ثالثاً، عند المنسوب المعهود أو بزيادة طفيفة عليه فإن إسرائيل لن تتردد ولا للحظة واحدة في شرعنة الحل الإسرائيلي جهاراً نهاراً، كما شرعنت أول من أمس المستوطنات «العشوائية»، وكرّست سرقة الأرض، وفتحت أمام المستوطنين الباب للانقضاض والاجتياح التام للأرض الفلسطينية.
ردة الفعل الفلسطينية هي الأساس وعليها أولاً سيعتمد الأمر كلّه، وستظل ردة الفعل الإسرائيلية الداخلية محكومة قبل كل شيء بردة الفعل الفلسطينية هذه.
لا يتوقع في اطار المرئي في الواقع الفلسطيني ان تكون ردة الفعل الفلسطينية على شكل طوفان سياسي ولا تسونامي شعبي، لكن الأمر يمكن أن يصل إلى هذا الحد عند درجة معينة من تصاعد وتطور المواجهة، قبل ذلك، وقبل ذلك بكثير يحتاج الأمر إلى سلسلة متراصة من السياسات الجديدة.
لا أقصد الأساسيات الهامة كإنهاء الانقسام وتفعيل المنظمة وعقد المجلس الوطني وتوحيد المؤسسات الوطنية وإعادة بناء النظام السياسي، فهذه هي بمثابة قواعد مفروغ منها إذا كنّا جادّين في إفشال الحل الإسرائيلي، إنما المقصود هو أن يتم فك الارتباط بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل وتحويلها من ارتباط تعاقدي إلى حالة تصدٍ.
بدون ذلك لن تشعر إسرائيل بالفرق، وبدون ذلك لن يتحرك المجتمع الإسرائيلي بل وحتى المعارضة السياسية في إسرائيل.
حتى ردة الفعل العربية والإسلامية لن تخرج عن هذا السياق، وبقدر ما تكون ردة الفعل الفلسطينية فعالة ومؤثرة وشاملة فإن الاستجابة العربية رسمياً وشعبياً ستكون كذلك وعلى نفس المستوى من الأهمية.
إسرائيل اتخذت قراراً بإعدام ميداني للتسوية السياسية، وهي تقدم على هذا الأمر في لحظة أزمة خانقة تحيط بها من كل جانب وسياستها محاصرة ومنبوذة دولياً، ولذلك فإن مجيء ترامب قد أحدث لدى إسرائيل حالة «نشوة» أفقدها القدرة على تقدير العواقب.
إن ما أقدمت عليه إسرائيل هو تحد هائل للشعب الفلسطيني، لكن هذا التحدي يحمل في ثناياه فرصاً كبيرة للشعب الفلسطيني في التخلص من «أوسلو» بالطريقة المناسبة، وبفك الارتباط مع إسرائيل في كل ما هو حيوي لها، وفي إعادة ترتيب الوضع الداخلي والانتقال إلى مرحلة هجوم سياسي شامل، بعد أن كشفت إسرائيل كل أوراقها وبعد أن أصبحت تجاهر وتطبق على الأرض برنامجها للحل بكل ما يتضمنه هذا البرنامج من انتهاك للقانون الدولي، وبكل ما ينطوي عليه مشروعها من مغامرة سياسية. 
لم يعد أمامنا من أعذار ومن محرمات ومن تحفظات تمنع هذا الهجوم أو تعيقه أو تنتقص منه.
لا مجال أمامنا سوى هذا الهجوم، ولا مجال أمام إسرائيل سوى المزيد من التوغل في التوسعية والعنصرية، وفي مطلق أحوال النتائج فإن إسرائيل هي الخاسرة.
كلفة الهجوم السياسي الفلسطيني أقل بكثير من كلفة بقاء الأمر الواقع على ما هو عليه، ومكاسب الهجوم السياسي أكبر بكثير من كل الخسارات المتوقعة.
المراهنات الإسرائيلية على ترامب هي مراهنات خاسرة، لأن ترامب مرحلة مؤقتة وخاسرة وخارج سياق التوازنات القائمة في كل المعادلات الداخلية الأميركية والدولية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد