كان صعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض صادماً بنفس القدر وغير متوقع مثلما كانت الحال حين صعد باراك أوباما ليكون أول رئيس أسود للولايات المتحدة، ومثلما صعد جورج بوش الابن قبل ذلك. 
لكنه كان وسيظل أكثر إثارة من سابقيه، فهو الرئيس الذي جاء مسبوقاً بتصريحات صحافية مثيرة وبالكثير من التصرفات الغريبة التي جعلت صعوده للرئاسة واحدة من أكثر غرائب السياسة الأميركية. 
ليس هذا فحسب بل إن ترامب أطلق جملة من الوعود وعبر عن نيته اتخاذ مجموعة من القرارات المثيرة للجدل قبل جلوسه في المكتب البيضاوي، وبالتالي جاء إلى البيت الأبيض وقد كسب خصوماً عديدين في اتجاهات الأرض الأربعة قبل حتى أن يمسك بمقاليد الحكم.
رغم ذلك فإن ثمة مبالغة كبيرة في الضجيج الكبير الذي يثار حول الرئيس الجديد. 
صحيح أنه شخصية تثير الفضول خاصة مع قراءة ماضيه وتقلبات حياته، لكن الحقيقة أن السياسة الأميركية عادة ما تثير كل هذا النقاش حول أي رئيس جديد يدخل البيت الأبيض خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. وربما ليس صدفة أن الرئيس الجديد أيضاً كثير التردد على مواقع التواصل الاجتماعي ويتفاعل معها كثيراً. 
لن يمر وقت كبير حتى يتكيف العالم مع ترامب، وحتى يصبح ترامب شيئاً طبيعياً في عالم طبيعي، وحتى تصبح تقلباته جزءاً من تقلبات العالم أيضاً. 
ليس مصدر هذه المبالغة في الضجيج الذي يصحب وصول ترامب إلا ما بدر من الرجل الإشكالي من تصريحات ومواقف، خاصة عربياً فيما يتعلق بما يبدر منه من عداء واضح للإسلام وربما ليس الإسلام السياسي فقط، وفلسطينياً (وعربياً أيضاً) ما وعد به من نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس
لكن رغم ذلك كان لابد من الانشغال أكثر في سبل تطوير وسائل لمواجهة الانزلاقات التي قد تحدق في عهد ترامب. 
أيضاً ثمة افتراض ساذج أن الرئيس الجديد لا يوجد لديه من المشاكل والأزمات إلا قضية الشرق الأوسط التي تقض مضجعه. 
ربما مواقفه من القضية الفلسطينية والصراع في المنطقة، وهي مواقف شخصية، ستجد طريقها إلى سياسات البيت الأبيض، لكنها لن تجد طريقها بسهولة بأية حال. 
ليس أن ثمة ممانعة قوية في السياسة الأميركية لبعض مواقف ترامب، ولكن لأن ثمة ديناميكية مختلفة حين يتعلق الأمر بالاستراتيجيات وكيف يمكن لها أن تأخذ شكل ردات الفعل بدلاً من المواقف الثابتة. 
كما أن ترامب الذي لا يبدو عليه كثير الاهتمام بالعالم، سيجد نفسه مضطراً إلى الاختيار إما بين الانعزال مرة أخرى والعودة بالسياسة الأميركية إلى مبدأ "مونرو" القائم على انعزال الولايات المتحدة وعدم تدخلها في شؤون الكوكب، وإما مواصلة تدخلاتها في السياسة الدولية وعندها سيكون عليه أن يلعب وفق مبدأ لعبة الأمم. 
ثمة مؤشرات كثيرة بدأت في عهد أوباما تشير إلى نية الولايات المتحدة الانغلاق والتراجع عن التدخلات الخارجية منها كان خفض مستوى التدخل في أفغانستان والعراق وحديثاً سورية وترك المجال للدب الروسي ليعاود استفاقته في الشرق الأوسط. 
حتى في قضية الشرق الأوسط الكبرى فإن واشنطن أخلت الطريق أمام باريس لتحاول أن تحرك "الطبخة"، وقفزت للأمام حين غضت البصر عن قرار 2334 المتعلق بالاستيطان. 
يبدو أن ترامب الذي اشتبك مبكراً مع أوروبا الموحدة واستثار غضبها ببعض تعليقاته حين حاول أن يكون واعظاً أخلاقياً للقارة العجوز، التي تزعم أن من صنع الأخلاق في السياسة الدولية، قد يرى في عدم التدخل المباشر في القضايا الدولية حلاً ويكتفي بعدم الانعزال على مستوى الاشتباك والنقاش. 
ففي المحصلة واشنطن جزء أساسي من المجتمع الدولي ولا يمكن النظر إلى السياسة الدولية دون التفكير أولاً وقبل كل شيء بمواقف واشنطن. 
وسيكون من الصعب على طاقم ترامب أن يرى بوتين يتحول إلى عملاق على حساب واشنطن. فهم يدركون أن بوتين جاهز لملء كل فراغ ينجم عن الانسحاب الأميركي. 
صحيح أن بوتين قد لا يفضل الصراع مع ترامب حول التدخل، لكنه بأي حال يبدو أكثر إصراراً على التواجد حتى في ساحات أوروبا الخلفية وربما في أزمات القارة بعد ذلك. 
وعليه فإن ترامب لن يجد مناص إلى التفاوض والتوصل إلى بعض التفاهمات على توزيع الأدوار بين الطرفين. 
هل سيكون هذا على حساب التحالف التاريخي مع أوروبا (ترامب تحدث عن عدم جدوى الناتو)؟ وهل سيقود هذا إلى تغير في اتجاهات السياسة الدولية.
القضية المتعلقة بنا بالطبع هي موضوع نقل السفارة الأميركية إلى القدس. 
بداية لا يمكن أن يفوتنا هشاشة سياقنا المحلي والإقليمي حيث إن قضية نقل سفارة يمكن لها أن تثير فينا كل هذا الفزع.
صحيح أن الأمر يتعلق بقدس الأقداس لكن ألا يقرع هذا الجرس أننا غير محصنين تجاه التغيرات في السياسة الدولية وتقلباتها. 
الأمر ذاته قد يحصل مع أي تغير في واحدة من كبريات الدول في العالم. 
عموماً الأخطر من ذلك أننا نبدو وحدنا المهتمين بالقصة. 
من المعيب أن العرب لا يجمعون على موقف حازم من القصة يهدد مثلاً بقطع العلاقات مع واشنطن إذا غامر ترامب بتنفيذ وعده. 
قد ما يزال من المشكوك فيه أن يقوم ترامب بتنفيذ وعده بشكل مطلق، لكن المؤكد أن ما يجري يكشف حاجتنا إلى استراتيجية عمل تنظر إلى المستقبل وتتجاوز أخطاء الماضي وتنهض بالحاضر. 
دون ذلك فسنظل عرضة لكل الاهتزازات التي قد لا يكون صعود ترامب إلا الجرس الأكثر قرعاً في آذاننا من بينها.
عموماً لن يمر وقت طويل حتى تبدو الأمور أكثر وضوحاً لكن هذا الوقت الطويل لن يمنحنا الكثير من الفرص إذا لم نعد ترتيب أوراقنا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد