تبيّن الآن وحسب الوقائع وليس مجرّد الادعاءات والحجج أن كل مخطط إسرائيل في النقب ليس له علاقة حقيقية ـ من قريب أو بعيد ـ «بشرعية» ما من أي نوع كان، وان كل ما في الأمر هو أن إسرائيل تسعى لتهجير أهلنا من تلك القرى ـ غير المعترف بها ـ لإحلال مستوطنين يهود في هذه المنطقة.
هكذا ببساطة ووضوح.
لم تعد إسرائيل «تخجل» من المجاهرة بهذا المخطط، ولم تعد بحاجة لإخفاء النوايا والرغبات، وهي لم تعد بحاجة إلى أي تبرير أو تفسير، وأصبح كل ما تحتاجه هو أوامر الهدم والتهجير، وأوامر القتل المباشر والدخول في مواجهة مباشرة مع أهالي النقب «أملاً» في استدراج مواجهة أوسع مع كل الجماهير الفلسطينية في إسرائيل لغاية في نفس الائتلاف الحاكم فيها.
التصعيد الإسرائيلي من حيث التوقيت مدروس بعناية، ذلك أن رئيس حكومة الاحتلال والاستيطان في مأزق داخلي كبير جرّاء الاتهامات التي تحاصره من كل جانب، وهو لا يرى سبيلاً لإعادة خلط الأوراق عَبر افتعال مواجهة مع «عدو» ما، وأصبح واضحاً أن جماهير شعبنا في الداخل الفلسطيني هو هذا العدو بانتظار بقية «الأعداء» في مواجهات جديدة.
إذن اختار نتنياهو أن تكون المواجهة في أم الحيران دون أن ينسى ولو للحظة واحدة كلا من طولكرم و بيت لحم وقلنديا، ودون أن تكون هذه المواجهة مسبوقة بقتل رجل أمام منزله في تلك القرية.
منذ الهدم «الجماعي» في «قلنسوة» بدا واضحاً أن المخطط المبيّت هو جماهير الداخل ظناً من أن الاستفراد بهم لن يكلف إسرائيل «كثيراً» في هذه المرحلة، في حين أن تصعيداً كبيراً في الضفة أو غزة قد «يتدحرج» إلى مواجهات كبيرة تعيد قضية الاحتلال إلى ذهن المجتمع الدولي، ناهيكم عما يمكن أن تؤدي إليه من الانزلاق نحو مواجهة عسكرية قد لا تقتصر على التراشق بالنيران مع قطاع غزة والمخاطر بامتداد هذا التراشق إلى لبنان ومع حزب الله على وجه التحديد.
هذا لا يعني أن المواجهة مع الضفة وغزة ولبنان مؤجلة إلى أجل غير مسمى، ذلك أن هذا الأجل مسمى ومحدد، إلاّ أن إسرائيل ـ على ما يبدو ـ اختارت المواجهة مع أهلنا في الداخل الفلسطيني في اطار منظومة لأولويات محكومة بردود الأفعال ومستويات الخطر الناجمة عنها.
مع هذا كله فإن «الأخطار» ـ من وجهة النظر الإسرائيلية ـ ليست دقيقة لا من حيث التقديرات ولا من حيث الحسابات. أزعم هنا أن إسرائيل قد اتخذت فعلاً قرارها بالمواجهة مع جماهير الداخل، وان الأمر سيتدحرج باتجاه لا يختلف عن يوم الأرض الخالد، وان هذا القرار يحمل في طياته «أخطاراً» أكبر بكثير مما تظنه إسرائيل، وان الاستفراد بجماهير الداخل ربما يكون هو التقدير الخاطئ الأكبر في معادلة الحسابات الإسرائيلية... لماذا؟
لم تكن إسرائيل قد انحدرت إلى هذا المستوى من العنصرية كما هو حالها اليوم، ولم يكن اليمين القومي الديني المتطرف قد سيطر بالكامل على مقاليد الحكم والإعلام والثقافة كما هو مسيطر في الواقع القائم، وبالمقابل فإن جماهير الداخل لم تكن موحدة ومتماسكة كما هي اليوم، ولذلك فإن هذا هو العنوان الأكبر لسوء التقديرات والحسابات الإسرائيلية في اختيارها مساحة الداخل للمواجهة مع الشعب الفلسطيني.
هذا كله أولاً، أما ثانياً، فإن أحداً في هذا العالم لا يمكنه أن يضمن لنتنياهو عدم امتداد المواجهات ليس إلى كل بيت وقرية ومدينة يتواجد فيها فلسطينيو الداخل وإنما إلى كل الضفة وغزة، كما لا يستطيع أحد أن يضمن لنتنياهو أن لا تمتد المواجهة إلى خارج فلسطين إذا ما وصلت إلى درجة ما من الاحتدام، وهذا هو العنوان الثاني في خطأ التقديرات والحسابات الإسرائيلية، أما ثالثاً وأخيراً، فإن حكومة نتنياهو لم تعد مسنودة من خارج الائتلاف وباتت مطاردة من المعارضة على كل هشاشتها، لكن الأهم هو أن الائتلاف الحاكم بات مسنوداً «بسيجار» على حد تعبير خبيث لأحد أقطاب هذا الائتلاف.
إذن لم يعد خافياً أن ثمة تنافسا كبيرا بات يحكم العلاقة بين كل من نتنياهو ونفتالي بينيت وذلك على الكتلة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، وأن ساعة الافتراق قد تدق في أية لحظة، وان الأمور لم تعد كما كانت عليه قبل عدة شهور، بل وعدة أسابيع فقط.. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن قدرة نتنياهو على الاستجابة «لفهم» اليمين المتطرف وخصوصاً الدعوات لضم «معاليه أدوميم» كمرحلة أولى من ضم المستوطنات ومن ثم كل منطقة «ج» أو الجزء الأكبر منها، لم تعد كما كانت عليه الأمور بعد صدور قرار مجلس الأمن وبعد خطاب كيري وبعد مؤتمر باريس، وهو الأمر الذي يحول الافتراق إلى حتمية سياسية إذا اختار نتنياهو عدم التراجع عن هذه الخطط (معاذ الله فهذا غير وارد على الإطلاق) وإنما مجرّد التروي في تطبيق هذه الخطة.
أراد نتنياهو أن تكون أم الحيران نوعاً من المتنفس السياسي، لكن أغلب الظن أنها ستكون أحد أخطر أنواع المختنقات فتكاً وأشدها على الإطلاق.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية