مركز إسرائيلي:إعمار غزة بين الحاجة والإشكاليات الاستراتيجية

القدس / سوا / استمرار الضائقة الانسانية في قطاع غزة من شأنها ان تعجل خطوات التصعيد والتدهور الى جولة مواجهة أخرى بين حماس وإسرائيل، أضف الى ذلك ان حكم حماس في غزة يتعرض الى ضغوطات وانتقادات مدنية في القطاع ومُتحدى لا شك من قبل تنظيمات الجهاد المتطرفة، التي تؤكد عدم جدوى التهدئة التي تدعو حماس إليها في هذه المرحلة وتعمل على زيادة جهود المقاومة العنيفة ضد إسرائيل.


الواقع الأليم في القطاع يضع أمام إسرائيل حتميتين مفادهما تعجيل ومضاعفة خطوات إعمار غزة، المقصود حتمية أخلاقية؛ إسرائيل تهرول دومًا بطريقة أخلاقية للمساعدة في مناطق الكوارث في جميع أنحاء العالم (من سوريا حتى النيبال) وترى في هذه المساعدة تكريسًا لقيم إنسانية ويهودية واجبة، وبناءً عليه تجد إسرائيل صعوبة كبيرة في شرح كيف انها تسارع الى المساعدة في بؤر الكوارث الانسانية البعيدة بينما تتملص من الكارثة الإنسانية الخطيرة بالقرب من حدودها، الحتمية الثانية هي حتمية استراتيجية لها علاقة بجوهر الجهد المبذول لمنع اندلاع جولة مواجهة جديدة أخرى.


يصعب ان نختلف على البيان بأن مفاد القول هو ان إسرائيل لها مصلحة في حث عملية إعمار قطاع غزة، رغم ان طريقة تطبيقها وفق ظروف البيئة الاستراتيجية القائمة تضع قائمة من المعضلات؛ هذه المعضلات تخلق توترًا بين المصلحة الإسرائيلية في إعمار القطاع وبين مصالح أساسية أخرى، هذه المعضلات وتلك التوترات تستدعي إدارة مدروسة وحذرة لخطوات الإعمار ومناورة سياسية معقدة، بالإضافة الى تفهم الثمن الذي قد يرافق هذه العملية وتحديد المعايير التي نقرر من خلالها الشروع في هذه العملية.


المعضلة الأولى التي تعترض إسرائيل بشأن ورشة الإعمار هي تقوي حماس المحتمل كجهة سلطوية في قطاع غزة، ومع عدم وجود فرصة حقيقية لتحقق المصالحة بين فتح وحماس وعدم وجود أي استعداد من قبل حماس لنزع سلاحها أو تمكين السلطة الفلسطينية من موطئ قدم فاعل في غزة؛ فمن الصعب تخيل وضع تنجح فيه السلطة الفلسطينية بالعودة الى حكم قطاع غزة، ولو بشكل جزئي ومحدود في غلاف القطاع، ناهيك عن المعابر؛ ومن هنا نقول انه إذا قامت الدول المانحة بتخصيص الأموال الممنوحة لإعمار القطاع من خلال السلطة أو في حال نفذ الإعمار من خلال منظمات دولية دون تدخل مباشر من حماس ستجد إسرائيل صعوبة في تمسكها بمعارضة تغيير موقف حماس على الساحة الدولية والدعوة الى اعتبارها تنظيمًا إرهابيًا، معنى هذه الأمور هو ان حماس خرجت مظفرة وقوية من عملية الإعمار، رغم ان تقوي حماس يتعارض مع مصالح إسرائيل الاستراتيجية، والتي تعني بالفعل سلطة فلسطينية ضعيفة أمام الإعداد لتجدد العملية السياسية.


معضلة أخرى مشتقة من تقوية موقف حماس نتيجة تحدث إسرائيل إليها، وهي تعميق للفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فإذا ظلت حماس هي الجهة السيادية الأقوى في قطاع غزة فلن تستطيع إسرائيل أن تقود عملية الإعمار أو مساعدة القطاع دون التحدث إليها، حتى وإن كان المقصود حوارًا غير مباشر، مثل الذي دار بين إسرائيل وحماس منذ عملية "عامود السحاب"، وإطار غير مباشر من هذا النوع أيضًا سيكون بمثابة قناة فاعلة لنقل الرسائل والتنسيق، بهذه الصيغة ستتعزز خصائص الكيان الغزي السياسية، وحينها ستجد إسرائيل نفسها تتصرف أمام كيانين سياسيين فلسطينيين يمثلان مصالح متعارضة، ومن غير المستبعد أيضًا أن هناك من يعتبر ذلك ميزة بحجة زيادة مساحة المناورة والمرونة الاستراتيجية الإسرائيلية في مواجهة الساحة الفلسطينية المنقسمة الى سلطتين.


المعضلة الثالثة متعلقة بمنظومة العلاقات المعقدة بين مصر وإسرائيل؛ فمنذ صعود الرئيس السيسي الى الحكم توثقت منظومة العلاقات بين إسرائيل ومصر، ووصل التنسيق الأمني والاستخباراتي بينهما الى مستويات منقطعة النظير، في نظر الرئيس المصري حماس، والتي هي حركة شقيقة للإخوان المسلمين، يفترض انها عدوة صريحة العداء وتهديد استراتيجي حقيقي على مصر؛ لذلك فمن وجهة نظره فإن عملية ينتج عنها تعزيز موقف وحكم حماس في قطاع غزة يشكل خطرًا على المصالح المصرية، وما يفضله السيسي بوضوح هو إعادة السلطة الفلسطينية الى قطاع غزة ودفع حماس الى هامش الساحة الفلسطينية والإقليمية، هذا الموقف المصري يشكل صعوبة كبيرة على إسرائيل في تجنيد مصر كشريك فاعل في إعمار القطاع ومن دون وجود عمل السلطة في المنطقة، ولذلك إذا طلبت إسرائيل تعجيل عملية الإعمار من دون السلطة فقد تجد نفسها في صدام مع مصر، وفي مثل هذا التصادم هناك نوع من المخاطرة بسبب تأثيره السلبي على منظومة العلاقات والتعاون بين الدولتين.


المعضلة الرابعة متعلقة بتقليص مساحة التحرك الإسرائيلي لإحباط جهود حماس في التقوي أثناء عملية الإعمار، والتي قد تنفذ بوجود منظمات دولية، وفي جولة المواجهة القادمة التي قد تقع على الساحة الغزية، ولذلك من المفترض انه إذا لم تنجح كل من إسرائيل وحماس في التوصل الى ترتيب متفق عليه مفاده وقف إطلاق نار متواصل واتفاق على قواعد سلوك وسلطة أمنية من نوع ما حينها؛ فإن أيديولوجيا حماس المقاومة وبتشجيع من تعزيز قوتها العسكرية ستترجم الى جولة أخرى من المواجهة العنيفة، في هذه الجولة التي ستقع بعد جهد دولي لإعمار القطاع قد تجد إسرائيل نفسها مقيدة أكثر من وضعها الحالي بمفهوم مساحة المناورة والمرونة في استخدام القوة، المجتمع الدولي الذي سينضم الى جهود الإعمار وينفق فيه الكثير من الأموال يُتوقع أن يبدي نفاد صبره وتفهمه احتياجات إسرائيل وسبل ردها، وبذلك سيعمل بإصرار من أجل إحباط تحركاتها بطريقة تجعل من الصعب عليها تحقيق إنجاز عسكري مهم.


وإلى ذلك؛ لا يجب التنصل من المقياس الآخر لإعمار قطاع غزة وتشكل متوقع لعوامل ضابطة تحسن الردع تجاه حماس، غير ان التجربة تقول ان تأثير عوامل ضابطة من هذا القبيل على حماس تعتبر محدودة، ويمكن الافتراض انه وقبل جولة المواجهة التي وقعت بين إسرائيل وحماس في صيف العام 2014 كان واضحًا لقيادة حماس ان عمليات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة ستؤدي الى وقوع أضرار بليغة، ومن هنا فإن قيادة حماس قد تتنصل من مصالح الجمهور المدني الكبير في حال تعارضت مع مصلحتها التنظيمية، التي تنعكس عن عالم إسلامي راديكالي وعن الحاجة الى الحفاظ على مكانتها في القطاع والساحة الفلسطينية.


الحتميات المفروضة على إسرائيل، إلى جانب التوقعات والضغوطات الممارسة عليها، وسيما من قبل المؤسسات والممثليات الدولية (الرباعية والأمم المتحدة والصليب الأحمر) وكذلك المنظمات غير الحكومية، إسرائيلية وغيرها، والتي يعتبر بعضها كثير الانتقادات لإسرائيل؛ كل ذلك يدفعها الى الإسراع لتوسيع جهودها في إعمار القطاع الذي يعارض المصالح الإسرائيلية، إذ ان إعمار القطاع من شأنه ان يقدم مصالح أخرى، يوجد بينها وبين الفائدة المتوخاة من إعمار القطاع توتر حقيقي.


دراسة هذه التوترات، لكي يكون من الممكن تحقق المصلحة الإسرائيلية من إعمار القطاع، يستوجب مسيرة مدروسة لسياسة خلاقة، إسرائيل لا تستطيع أن تقود وحدها تنفيذ الإعمار، فتقدم المشروع يستدعي تدخل السلطة الفلسطينية، ليس لأن الدول المانحة تشترط تحويل الأموال التي وعدت بها بهدف الإعمار من خلالها فقط، وما عدا ذلك يتوجب الحصول على تأييد مصر لعملية الإعمار، الى جانب مشاركة العربية السعودية، وتدخل دول أخرى في المنطقة.


في الواقع؛ فإن المقصود مشاركة إقليمية تستطيع إسرائيل في حال تبلورها التشجع من خلال الاستعداد لأن تدرس من جديد المبادرة العربية ومواءمتها، وربما من خلال اقتراح مشجع على السلطة الفلسطينية في كل ما يخص الحياة اليومية ووجودها في الضفة الغربية، ولن يكون في كل ما تقدم ما هو كافٍ، على المجتمع الدولي أن يكون حاضرًا بشكل فاعل ومهم في عملية الإعمار، ربما تستطيع الرباعية الدولية ان تبلور إطارًا واقعيًا يكون مقبولًا على كافة المعنيين بالأمر، ويشجعهم على تبني مسؤولية ما يجري في غزة، وعلى أية حال، حتى لو أن هذا المخطط المتعدد الجنسيات المعقد تبلور بالفعل، ستكون هناك حاجة الى تصميمه، بحيث يقدم إجابة للتهديدات الأمنية التي ستكون كامنة في عملية إعمار القطاع وتعزيز قوة حماس، ولا شك ان المهمة لن تكون سهلة إطلاقًا.

مركز دراسات الأمن القومي الاسرائيلي

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد