لفت انتباهي في استطلاع يجريه أحد المواقع الالكترونية الأكثر تداولاً غياب أية إشارة لأي شيء يتعلق بالثقافة. فالاستطلاع الضخم الذي يسأل المستطلعين عن رأيهم في أفضل شخصية سياسية أو حزب أو شخصية حزبية أو مغنٍ أو مغنية أو ممثل أو صحافي أو إعلامية، يغيب عنه في خضم كل هذه الأسئلة الكثيرة أن يسأل عن أفضل كاتب أو أفضل كتاب. 
وهذا الغياب الذي لا يكون مقصوداً لكنه يعكس الكثير من الأشياء المقصودة المتعلقة بالوعي العام، وبكيف يتم النظر إلى موقع الثقافة في السياق العام للنقاش. 
فالاستطلاع لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويسأل عنها، بل إنه يتعدى السياق الفلسطيني ليسأل عن أفضل مطرب ومطربة عربيين وأفضل إعلامي وإعلامية عربيين، لكنه أيضاً لا يسأل عن أي شيء يتعلق بالثقافة لا العالمية بشموليتها ولا العربية بعمقها ولا الفلسطينية بخصوصيتها. 
وبالطبع الأمر لا يتعلق بأهمية الاستطلاع ولا بمدى جذبه لاهتمام الناس ولا بمكانته وتأثيره، بقدر كونه إشارة صغيرة إلى عالم أرحب يمكن من خلاله الكشف الحقيقي عن كيفية النظر للثقافة في النقاش العام. 
هذا الكشف يدلل بالكثير من اليقين على أن ثمة غياباً لأي اهتمام حقيقي بعالم الثقافة وبما يمكن أن تمثله في حياة الناس. فمثلاً يبدو، دلالياً، من المهم أن نعرف أي مطرب أو مطربة يفضل المواطنون، فيما ليس مهماً لأي كاتب أو كاتبة يقرؤون، بل إننا لا يهمنا ليس ماذا يقرؤون، بل إذا ما كانوا حقاً يقرؤون، أو كم يقرؤون، أو ماذا يفضلون حين يقرؤون. فالقراءة مختلفة ومتنوعة: فمن الناس من يفضل الكتب الأدبية ومنهم من يفضل الكتب العلمية ومنهم من يفضل الكتب الدينية ومنهم من يفضل كتب الخيال العلمي وغير ذلك. 
بمعنى أنه حتى فكرة القراءة على شموليتها إلا أنها تحتوي على الكثير من التخصيص والتفصيل الذي يمكن بدوره أن يكشف لنا الكثير عن طباع الناس وتوجهاتهم التي لا يمكن لرأيهم حول أفضل مطرب أو مطربة أو أفضل شخصية حزبية أن يكشف لنا عنها. 
إننا نفقد الكثير حين نقوم بإغماض أعيننا عن جانب مهم من حياة الناس وتكوينهم وتشكيل وعيهم. 
والتفاعل العلائقي بين القراءة وبين تكوين الخيارات حتى السياسية مهم جداً، إذ إنه يدلل على كيف يمكن لخياراتنا أن تكون مترابطة وتقع ضمن دائرة التأثر والتأثير المتبادل. ونحن نفقد الكثير حين لا نقوم بالبحث حول هذا الترابط العلائقي في تشكيل الخيارات وفي تكوين المرجعيات المختلفة التي بدورها تقود وفق تسلسل منطقي أو على الأقل يمكن تفهمه إلى تشكيل وعينا. 
فأنصار اليمين واليسار مثلاً يفضلون أنواعاً مختلفة من الكتب، بل في مرات كثيرة يميلون إلى روائيين دون غيرهم وشعراء دون غيرهم، وكتب دون غيرها. 
ما أرمي إليه هنا أن ثمة ترابطاً كبيراً بين خيارات الناس وما تقرأ. 
خياراتها في المجالات كافة، وليس فقط خياراتها السياسية وتوجهاتها الفكرية. 
حتى في المجتمعات ضعيفة القراءة فإن مثل هذا الترابط موجود. 
وفي البلدان التي تكثر فيها القراءة وتشكل صناعة الكتاب جزءاً مهماً من ماكينة صناعة الرأي العام وتشكيل الوعي الشعبي، بجانب كونها جزءاً مهما من عجلة الاقتصاد، فإن الثقافة تحظى باهتمام كبير أيضاً في السياسات العامة للدولة، بل إن نصيبها من الموازنة العامة يكون كبيراً.
مرة أخرى ما أقصده من وراء هذا النقاش هو لفت الانتباه إلى أن غياب وجود إشارة إلى ماذا يقرأ الناس (على غرار ماذا يسمع) أو حتى ماذا يشاهد الناس، ومن هم كتّابهم المفضلون وكتبهم المفضلة ومواضيع القراءة المفضلة لديهم، كله يكشف كيف يتم النظر للثقافة ومكانتها.
وهذا بدوره يقودنا إلى نقاش فرعي (ربما أكثر أهمية) حول مكانة الثقافة في السياق العام. 
والمؤكد أن الكثير من الشواهد يشير إلى غياب التخطيط الحقيقي في السياسات العامة خاصة من قبل الدولة لكيفية تعزيز الثقافة وتعزيز القراءة وتعزيز تداول الكتاب. 
وإن نظرة سريعة إلى ما تقوم به المؤسسة الرسمية أو المؤسسات الأهلية، وهو أقل من أدنى سقف ممكن للتوقعات، يدلنا إلى أن الدروب مقفرة، وأن الثقافة ليست بأية حال تحظى باهتمام. 
وربما بتأمل ليس النشاطات الصغيرة والمتفرقة التي تجري هنا وهناك في بعض المدن والمخيمات والقرى، بل بتأمل بعض الحقائق الأساسية المتعلقة بالقراءة وحالتها وبالكتاب ووضعه، يمكن لنا أن نقف على حقيقة غياب أي اهتمام في الاستطلاعات العامة بماذا يقرأ الناس ولا لمن يقرؤون.
فلا يوجد مثلاً بيانات سنوية (رسمية أو غير رسمية) حول الكتب التي تنشر في فلسطين ولا يوجد تصنيف لها ولموضوعاتها، كما لا يوجد لدينا أدنى تصور حول ماذا تقرأ أو أي الموضوعات تفضل، وعلى ماذا تقبل دون غيره. وبالطبع الأدب في قلب كل ذلك لأنه الأكثر تأثيراً على الهوية وتشكيلها، وهو أكثر ما يقرأ الناس دواماً وحضوراً في وعيهم المستقبلي، وهو ما ينقلونه من جيل إلى جيل. 
لاحظوا مثلاً أنه لا توجد جائزة وطنية كبرى تحظى باهتمام الناس. 
الجوائز قد تحظى باهتمام المثقفين والكتاب وربما من يحصل عليها في بعض الحالات لا يكون متابعاً من الأساس لنتائجها. 
لكن لا توجد جائزة تحظى باهتمام شعبي، باستثناء بعض الجوائز المهمة التي أيضاً لا تنال اهتمام الناس ولا يشكل نيلها دفعاً قوياً في تشكيل خيارات القراء لديهم، فإننا في فلسطين لا نعرف كيف تؤثر الجوائز على تفاعل الناس مع القراءة. 
بل إن الجوائز الرسمية تبدو أقل هذه الجوائز لفتاً للانتباه. 
عموما هناك الكثير الذي يجب أن يقال في هذا السياق، الذي يشمل مسؤوليات المؤسسة الرسمية خاصة وزارة الثقافة ودائرة الثقافة والإعلام في منظمة التحرير بجانب مؤسسات المجتمع المدني والاتحادات والنقابات والتجمعات العاملة في شؤون الثقافة المختلفة، لكنها إشارة سريعة في بداية العام الجديد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد