لم أكن أتخيل قبل ثماني سنوات وبالتحديد مع ظهر يوم 27 من شهر ديسمبر  2008 أنني سأكون على موعد مع حرب عشت تفاصيلها لحظة بلحظة دون أن أكون متواجدا فيها.  فقد بدأت الإتصالات والرسائل تنهمر علي كالمطر لقد بدأت "الحرب" كيف حال أهلك إن شاء الله بخير هل تواصلت معهم !!!

قلت "حرب" عن ماذا تتحدثون وإذا بها لحظات ليصل الخبر التالي والعاجل ، أكثر من 130 شهيدا ومئات الجرحى في قطاع غزة إثر ضربات قام بها جيش الإحتلال البغيض، حيث هاجم في اللحظات الأولى للحرب غزة بأكثر من ستين طائرة عسكرية لا تعرف الرحمة ولا تفرق بين طفل وشاب، أو شيخ طاعن في السن أو إمارة، ولا بين حجر وشجر وبشر، لم تكن حربا في نظري بل كان الموقف أشبه "بيوم القيامة" .

 

لم أتمالك أعصابي مطلقا ، خرجت مسرعا كالمجنون من العمل دون أن أستأذن من مسؤولي في العمل وانهالت علّيا الإتصالات من جديد من  كل حدب وصوب من جميع الأصدقاء حتى من أناس انقطعت أخبارهم منذ زمن ، وكان هدف الإتصال واحد ليسأل الجميع "كيف هم أهلك في غزة وكيف هو الوضع الآن" لم تكن مشكلتي في الإتصالات التي كانت تصلني والتي لها محل تقدير واحترام لما أظهرته من تعاضد الجسد الواحد،  ولكن كان تفكيري بإتجاه واحد فقط "ما هو مصير عائلتي يا ترى ؟!" .

 

كانت العبرات تخنقني  وكنت أحس بجسدي الذي صار هزيلا ومثقلا من وقع الصدمة ، كأنه جسد شيخ طاعن في السن أكل عليه الدهر وشرب ، لا أقوى على أن أخطوا خطوة واحدة للأمام ، أَجِد حركاتي ثقيلة جدا وعيناي من شدة العبرات لا تستطيع أن ترى ماذا أمامها !!

كنت أبحث عن إجابة علها تشفي ذلك العليل الشاب الذي خارت وانهارت قواه فجأة  ولكن دون أمل.

أغلقت هاتفي وذهبت بخطواتي الثقيلة وجسدي المتعب  وعبراتي المكتومة أجر نفسي جرا لأقرب مكتب للإتصالات محاولا الإتصال بعائلتي لكن دون جدوى .

 

بقيت الأخبار تزداد قسوة وبشاعة وبدأت تتناقل عن نية العدو قصف المشافي والتجمعات السكنية بحجة إختباء المقاومين فيها، فالإحتلال يعلم أنه كاذب وأن المقاومة ما وجدت إلا للذود عن شعبها لا أن تنغص عليهم حياتهم بل لدى المقاومين من الشجاعة أن يواجهوه بصدورهم العارية على أن يؤذوا شعبهم ، ولكنها عقلية المحتل الفاشي الذي يريد أن يحرق الأخضر واليابس، لا هم له سوى أن يقضى على شعب يأبى الخضوع أو الركوع.

 

في الحقيقة أكثر الأخبار التي أرقتني في تلك الحرب والتي جعلتني أشعر بأنني أنتظر فاجعة لكنها مسألة وقت، أن العدو قرر أن يقصف المراكز الطبية والمشافي كما ذكرت، وكان والدي آنذاك يعمل طبيبا في وزارة الصحة وكانت الخطة تقتضي في حال الطوارئ وتعرض القطاع لهجوم أن تعمل كل الكوادر الطبية في المستشفيات دون إستثناء ، كان وقع هذا الخبر على أذني كالصاعقة وتذكرت أبي نعم أبي الذي منعتني الحدود المغلقة من الجهة المصرية أن أراه وعائلتي منذ سنين !!!

 

بادرت بالإتصال بوالدي كي أخفف من آلام جسدي المتعب والمنهك،  لكنني لم أفلح فقد كانت تخرج الرسالة التي كنت أعرفها من قبل لكن حقدت عليها هذه المرة " جوال مرحبا ! الهاتف الذي تحاول الإتصال به مغلق حاليا ". يا إلهي كم كرهت هذه العبارة ، كنت أسمعها وكأنني أسمعها للمرة الأولى في حياتي، في حينها إستسلمت للأمر الواقع وعرفت أنني أنتظر القدر، وأنني على موعد أو مقربة منه لكنه ينتظر اللحظة المناسبة ليطرق فيها أذني المتلهفة لسماع خبر سار يبرد على جسدي الهزيل آلامه .

 

اتصلت بأخي، وكان يتابع الأخبار من منزلنا الذي نقطنه سوية، يحاول الإتصال بأهلي أيضا عله يجد إجابة ترد لنا الروح بعد ممات، لكن المحاولات جميعها باءت بالفشل .

 

بقيت أنا وأخي نتحسس الأخبار بحثا عن إجابة حتى ظهرت الرسالة الأولى !!

 

الساعة الواحدة فجرا تأتي رسالة من هاتف والدي النقال مفادها "نحن بخير وأكثروا لنا من الدعاء الوضع جدا صعب ولا ندري إلى أين ستتجه الأمور"، حاولت الإتصال به في تلك اللحظة لكنه كان أسرع مني  وأغلق هاتفه النقال مجددا .

 

بقدر ما فرحت أنا وأخي بالرسالة أن أهلنا بخير بقدر ما إزداد همنا وحيرتنا. بقينا ندعوا ونتابع الأخبار ونراقب نحاول جاهدين التواصل مع أهلي هناك لكن دون جدوى.

 

إنتظرنا لليوم التالي علنا نفلح بالإتصال وبالفعل نجحنا، ردت والدتي على الهاتف لتطمئننا بأنهم بخير، ولكنهم لا يردوا على الهاتف لأن جيش الإحتلال يتواصل مع السكان  عبر الهاتف ويطلب منهم إخلاء البيوت تمهيدا لقصفها بحجة تواجد مطلوبين فيها، وكان هذا الأمر السبب الرئيسي في عدم رد الناس في غزة على الهاتف خوفا من أن يكون الإحتلال هو المتصل لكي يخبرهم بنيته المشئومة .

 

فهِمْنَا بعد ذلك أن الإتصال المباشر قد يقلق أهلي لأن رقم هاتف المتصل لا يظهر لهم إذا لم يكن يتواصل معهم الشخص مباشرة من هاتفه لأنه حينها سيظهر لهم رقم غير معرف، فقررنا التواصل معهم عن طريق الرسائل النصية.

 

إستطعنا أن نجد حلا للتواصل ولكن كان التواصل بقدر ما هو جيد حيث كنا نطمئن من خلاله على أهلي بقدر ما كان ينغص علينا بالأخبار السيئة التي كانت الرسائل تحملها ، فقد قرر الإحتلال قصف منازل مجاورة لبيتنا كما أخبرتني شقيقتي حينها وطلب من أهلها إخلائها فورا، وبالفعل تم ذلك وكان أخي الصغير حينها يبلغ من العمر خمس سنوات ليبدأ فصلا آخر مع الخوف والمعاناة، حيث ظهرت عليه معالم الإضطراب النفسي والخوف من آثار الحرب وشدتها.

 

لم يستطع أخي النوم ليلا من شدة الخوف وكان يخشى الذهاب وحده الى أي مكان داخل المنزل وذلك بسبب أصوات القصف المتواصل و العنيف التي كانت تطرق أذنه كل لحظة وقس على ذلك أطفال قطاع عزة عامة، مما زاد الأمر تعقيدا وزاد من المعاناة أيضا.

 

عاد أبي إلى البيت في اليوم الثالث من الحرب أراد أن يطمئن على أهل بيته وكان بذلك مخاطرا بحياته، لأن الإحتلال كان يقصف كل هدف متحرك "كالسيارة" مثلا بحجة أن فيها مقاومين ، هاتفني أبي ليطمئننا أنا وأخي أنهم بخير وحدثني عن المناظر القاسية التى شاهدها في المستشفى من أشلاء وجثث ممزقة وأطفال يرثى حالهم مصابون بإصابات خطيرة، لا تقوى مستشفيات قطاع غزة على التعامل معها بسبب الحصار المفروض على غزة حينها، وطلب مني التواصل مع المستشفيات والمراكز الطبية في ألمانيا للتحرك لإغاثة غزة، ومساعدتها بكل المستلزمات الطبية اللازمة من ألفها إلى يائها، ووضعهم في صورة الأوضاع الدائرة هناك.

 

بالفعل أرسل لي قائمة بالمستلزمات وبدأنا التحرك هنا في ألمانيا مع باقي المؤسسات لنطلعهم على الأوضاع الخطيرة والمأساوية علنا بذلك نخفف عنهم شيئا من هذه الهجمة البربرية الحاقدة .

نجحنا في أن نجمع التبرعات والكثير من المستلزمات الطبية والأدوية وبدأنا بتجهيز القوافل الطبية عن طريق المؤسسات الطبية المختلفة، وعلى رأسها تجمع الأطباء الفلسطينيين في ألمانيا خصوصا وأوروبا عموما، وكنا نتسائل هل ستصل هذه المساعدات إلى المحتاجين هناك يا ترى ؟!

 

إستمرت الحرب لأكثر من عشرين يوما، وكنا في كل يوم نستيقظ على مأساة جديدة وألم جديد في الواقع كنا نتمنى أنا وأخي أن نكون في تلك اللحظات بين أهلي في غزة، ولو تسنى لنا الأمر لفعلنا فكما يقول المثل  "الموت مع الجماعة رحمة"، كنا نشعر وكأننا نقتل ببطئ على مبدأ القتل الرحيم، رغم الأمن والأمان والإستقرار الذي كنا ننعم به هنا في ألمانيا، إلا أن ما سبق لم يخفف من القهر الذي كان يسكننا، والكابوس الذي كان يلاحقنا خوفا من أن يأتي خبر مكروه لم نكن نود سماعه.

 

إنتهت الحرب وبدأت غزة تنفض عن نفسها آثار القصف والتدمير الهمجي والبربري، فلم يترك الإحتلال آلة حربية إلا واستخدمها حتى القنابل الفسفورية التي كانت تحرق أجساد الآمنين كانت من ضمن الأسلحة التي استخدمها الإحتلال في حربه الهمجية.

لم يُصْب أحد من أهلي بأذى طيلة أيام الحرب بفضل الله، لكن كانت الفاجعة كبيرة فقط سقط في هذه الحرب الغير متكافئة أصلا أكثر من 1400 شهيد، وكانت المصيبة أكبر حينما علمت أن إثنين من أصدقائي قد استشهدا أيضا .

 

ختاماً لم تكن حرب غزة الأولى تدور رحاها في غزة فقط بل تجاوزت أصداؤها وأحداثها حدود غزة، وكنا نشعر أننا من يعيش لحظات القصف والدمار رغم البعد ورغم الأمان الذي كنا نحظى  به، كانت الحرب النفسية التي كنا نعيشها وتأثيرها بلا مبالغة، أكثر تأثيراً من مجريات الحرب ذاتها، كنا نتأثر بكل خبر عاجل يظهر على شاشات التلفاز، فقد كانت الأخبار بمثابة الأكسجين الذي نتنفس من خلاله ليبقينا على قيد الحياة، لم نكن وحدنا كفلسطينيين من تأثر بحرب غزّة، فلقد رأينا تكاتفا وتضامنا من العديد من الجنسيات وعلى رأسها الجاليات الإسلامية هنا في ألمانيا.

لقد تكاتف الجميع مع غزة وأظهر الجميع قدرا عاليا من المسؤولية والإنتماء إن لم يكن للدين فللإنسانية على أقل تقدير، لذلك لم تكن غزة وحدها تعيش الحرب، بل عندما انتهت الحرب حق لنا أن نشعر بالنصر الذي حققته غزة أيضا كباقي الغزيين مع فارق أنهم كانوا الأكثر معاناة بيننا .

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد