منذُ أحداثِ الحاديَ عشَرَ من سبتمبر 2001. ،  بدأتِ الأحداثُ العالميةُ تأخذُ أشكالاً جديدةً ،  وبطُرُقٍ متسارعةٍ ، وانتقلتِ العَولمةُ - الوجهُ الجديدُ للاستعمار العسكريّ ، الذي استنفد أهدافَهُ وحَقَّقَ مآربَهُ باتحاد رأسِ المالِ الصناعي مع رأسِ المالِ العسكريِّ ، كحالةٍ متقدمةٍ لمفهوم الامبرياليةِ الرأسماليةِ - إلى مفهومٍ أكثرَ وحشيةً تَمَثَّلَ في بروزِ الوَجْهِ الاستعماري للعولمة ، فأصبحتِ الدُّوَلُ الامبرياليةُ تخلقُ المبرراتِ ، وتضعُ المسميات ،  وبناءً عليه قامت ، وتقومُ بالتنفيذ واستباحةِ العالمِ العربيِّ بلا مَرجعيةٍ أو شرعيةٍ دوليةٍ لتحقيقِ أهدافِها، فأطلقتْ مفهوماً للإرهابِ كما تراه من وِجهةِ نظرِها ، وبما يخدمُ مشاريعَها، دونَ أن تضعَ له تعريفاً جامعاً شاملاً ، شملت به من شملت ، واستثنت من أرادت أن تستثنيَه ، وظهر مفهومُ التطرفِ حديثاً ، ليختصَّ بجماعاتٍ معينةٍ قد ينطبقُ عليها مفهومُ التطرف ، ولكن في المقابل ، أُخرِجَ من هذا المفهوم متطرفون عاثُوا - ومازالوا يعيثون-  في الأرضِ الفسادَ ، على مرأى ومسمعٍ منَ العالم ، بلْ وَيحظَوْن بالدَّعمِ ، فكان ذلك دليلاً على ازدواجيةِ التعامل ، والكيلِ بمكيالين.

واعتماداً على تلك المبرراتِ بدأَ الغزوُ الكولينياليُّ لبلادِ العربِ باحتلال العراق عام 2003، وما لحقَها من تداعياتٍ أثَّرتْ على المنطقةِ ، وخَلَقتْ حالةً منَ الفوضى العارمة ، سيظل العربُ يعانون منها لعشرات قادمة من السنوات ، كان المبررَ آنذاك الحربُ على الإرهابِ وتدميرُ أسلحةِ الدَّمارِ الشامل التي ثَبُتَ كَذِبُ ادِّعائِها فيما بعد ، أضف إلى ذلك ، التدخلَ في الشأنِ العربي إثرَ اندلاعِ ما يسمى بثورات الربيع العربي بحجةِ حمايةِ الديمقراطيةِ وحقِّ الشعوبِ في تقريرِ مصيرِها، الذي تحوَّل إلى جحيمٍ ، أحرق الأخضرَ واليابسَ ، ودمر الحجر و أهلك الحرث والنسل ، تلك الدوافعُ كانتِ الوجهَ الخارجيَّ للتدخلاتِ الغربيةِ في العالمِ العربيِّ ، والوجهَ الظاهرَ لما فوقَ العولمة الذي أُطلق عليها مفهوم " Ultra Globalization ". .

أما الدوافعُ الدفينةُ فتلك التي تقبعُ خلفَ المَشْهد، . وعليه فَثَمَّةَ أسئلةٌ تثار تدورُ في فلك الدوافع الحقيقية من وراءِ تلك الأحداث ، وما نتج عنها ، ولمصلحة من كل ما يجري ؟

 من وِجهةِ نظري ارى أن هناك جُملةً منَ الدوافعِ ، فيها دافعٌ محركٌ ورئيسيٌ ،  ودوافعُ تابعةٌ مساعدةٌ  له، أما عنِ الدوافعِ المساعـِدةِ ، فتكادُ تنحصِرُ في كل من الشأنِ الاقتصادي و السياسي.

 أما من حيث الاقتصادي فمنَ المعلومِ أن الوطنَ العربيَّ ما زال محطَّ الأنظارِ الطامعةِ في خَيراتِه ، وبالتالي كان لا بد من السيطرةِ التامة والمباشِرة  للدُّولِ الاستعمارية التامة على موارده ، والاستغناء عن السيطرة بالوكالة ، بعد أن وجدت تلك الدول الاستعمارية التي تطورت إلى الطور الكولينيالي الجديد أن من مصلحتها تملكَها ، فتم لها ذلك ، وكنتيجةٍ لهذا ازدهرت اقتصاديات تلك التي تعتمد على الصراعات الإثنية لإدامةِ مصانعِها، فتنامت تجارةُ السلاح والآلياتِ العسكريةِ والأجهزة الطبية وغيرُها ، فضلاً عن المصالح الإقليمية الاقتصادية التي تَعتَبِرُ المنطقةَ العربيةَ منطقةً جغرافيةً إستراتيجيةً ، ففي هذا الشأن كتب "روب تايلو" مقالاً تحت عنوان "صراعُ الأنابيب في سوريا "، في "مجلة القوات المسلحة الأمريكية وضَّحَ فيه أن الحربَ في سوريا تهدفُ بالأساس إلى السيطرة على خط إمدادات الغاز عبر الأراضي السوريةِ إلى تركيا ومنها إلى أوروبا سعياً للتخلص من الاحتكار الروسي شبه التام لإمدادات الغاز إلى أوروبا ، وبالتالي تهديد المصالح الإيرانية والروسية في هذا الجانب ، والذي رفضته سوريا، وفَضَّلت توقيعَ اتفاقيةٍ مَعَ إيرانَ لإمداد أوروبا بالغاز عبر العراق مرورا بسوريا الواقعة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. غير أن الهدفَ الأعمقَ في الشأنِ الاقتصادي هو إضعافُ اقتصادياتِ الدُّولِ العربيةِ حتى الغنيةِ منها ، ووقوعها في براثن البنك الدولي ( ذراع العولمة الاقتصادي ) ، ذلك السَّيفُ المُسَلَّطُ على رقاب الشعوب ، والذي من خلاله تستطيعُ الدولُ الاستعماريةُ إملاءَ شروطها وفرضَ المواقف على الدول العربية - سواءً ما كان اقتصاديا أو سياسياً وحتى الاجتماعي -  أما في الشأنِ السياسي ، فالناظرُ إلى العالمِ العربيِّ يجدُ أن الدولَ العربيةَ أصبحتْ فاقدةً لزمامِ المبادرة في سياساتها ، وأصبحت خاضعةً لما تُمليهِ القوى الاستعماريةُ عليها فضلاً عن تحقيقِ المخططات الإقليمية ، ومنها مشروعُ الشرقِ الأوسطِ الجديد ، والذي يتطلب إبرازَ قوَّةٍ شرقَ أوسطيةٍ قائدةٍ لمجموعةٍ من دول الفُتات ، الناتجةِ عن تجزيء المُجَزَّأِ في وطننا العربي الكبير ،  كنتيجة لاتفاقية سايكس وبيكو عام 1916.

أما الدافع الرئيس وراء ما يحصل في الوطن العربي فمن وجهة نظري يتمثل في عدم إيجاد حل عادل  للقضية الفلسطينية

فمن المعلوم أن القوى العظمى مُسَيطَرٌ عليها من القوى الصهيونيةِ العالميةِ ، التي تهدف إلى إقامةِ دولة "إسرائيلَ الكبرى" بحدودِها التاريخية المزعومة من الفرات إلى النيل، والذي يتطلبُ أن تكون "إسرائيلُ" دولةً عظمى بين دولٍ ضعيفةٍ متناحِرَةٍ، سعت إليه الصهيونية منذ القرن الثامن عشر عندما ظهرت حركة النورانيين، التي قادها الأستاذُ الجامعيُّ " وايزهاوبت " في القرن الثامنَ عشَرَ بدعمٍ من عائلةِ "روتشلد اليهودية" والتي تهدف إلى إقامة حكومةٍ عالمية تخدمُ الهدفَ المنشودَ بإقامة دولتهم وعاصمتُها القدس ، لذلك كانت الأحداث الأخيرة المتلاحقة على مدى العقود العشرة الماضية وتحديداً منذ اغتصاب أرض فلسطين من قِبَل العصابات الصهيونية تصب في هذا الجانب، فالضَّعفُ العربيُّ ، بالإضافة إلى المؤامراتِ التي تَعَرَّضَ لها الشعبُ الفِلَسطينيُّ، حَوَّلتِ الاهتمامَ الإسلاميَّ والعربيَّ بخصوص فِلَسطينَ إلى قضيةٍ خاصةٍ بالعرب بعد سحبها من عمقها الإسلامي، فأصبحت قضيةً تخُصُّ العربَ وحدَهم وأوكلت تلك المهمةَ إلى جامعة الدول العربية، لتتحولَ بعد ذلك إلى قضيةٍ تخصُّ دولَ الطَّوْقِ العربية - كجبهة اتصالٍ مباشرةٍ ودعمٍ ماديٍّ من باقي الدولِ العربيةِ كالتزامٍ قومي بالقضية، وفي عام 1974 وتحديداً في مؤتمر الرباط بالمغرب تم سحبُ صلاحيةِ الدول العربيةِ وتركيزها في الشأن الفلسطيني عندما تم الاعترافُ بمنظمة التحرير كممثلٍ وحيدٍ للشعبِ الفِلَسطينيِّ ، ومنذ ذلك التاريخِ ، وما تبعه من أحداثٍ متلاحقة أُجبِرَ الشعبُ الفِلَسطينيُّ على الرضوخ  للإملاءات  الصهيونيةِ ، وتم توقيعُ اتفاقيةِ السلام "اتفاقية أوسلو" ،  وكان قبلها اتفاقية كامب ديفيد، فحوصر الوضعُ الفلسطينيُّ داخلَ ( كانتون غزة أريحا أولاً ) وما جادت به "إسرائيلُ" على السلطةِ الفِلَسطينيَّةِ من أراضيَ بالضفة الغربية المحتلةِ عام  1967م ، والتي لا تزيد نسبتها عن  22% من أرض فلسطين التاريخية  ، بعدما احتلال الجزء الأكبر من أرض فلسطين التاريخية  منها عام 1948م ارتكبت خلاله العشرات من المجازر الدموية التي اضطرت أهالي تلك المدن والقرى إلى النزوح والتشتت في أماكن اللجوء حول العالم . وسعى الكيان الصهيوني إلى التخلص مشكلة اللاجئين وحق العودة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني ، والذي أقرته قرارات عدة للشرعية الدولية ، ضربت " دولة الكيان الصهيوني " بها عرضَ الحائط عن طريق توطينهم في البلدان العربية ، التي باتت مهيأةً سياسياً واقتصادياً الى القبول بمثل هذه الحلول بما سيُفرضُ عليها ، إن لم يكنِ اقتصادياً فبالقوة العسكرية، بعد أن حَرَصتِ الدُّولُ الخادمةُ للصهيونية على القضاءِ على أي قوةٍ منَ الممكنِ أن تقولَ "لا" أو أن تفكرَ في التصدي للحلم أو للمشروع الصهيوني، وضَيَّقت على الفلسطينيين في الدول العربية ليَسْهُلَ قَبولُهم بما يُفرضُ عليهم، فهُجِّروا منَ الكويت إثرَ غزو العراق لها ، كنتيجة لمواقف القيادة الفلسطينية مع العراق ، وفي لبنانَ أعمل القتلُ والحصارُ في أبناء المخيمات فيها ، وفي سوريا، مورست أبشع أنواع القتل والتشريد والتجويع بحق مخيمات الفلسطينيين فيها. ذلك ما يخططُ له الصهاينة ، ولكن يبقى السؤالُ المحوريُّ الذي يطرحُ نفسه : هل يمكن القضاء على إرادة الفلسطينيين حتى في ظل ما يخطِّطُ له الصهاينةُ وأعوانُهم ؟

إن الإجابةَ على هذا السؤالِ ماثلةٌ في غزةَ ،  فالحصارُ والقتلُ والتجويعُ لم يثنوها عن المطالبة بما اغتُصِبَ من الأراضي الفِلَسْطينية ، ولم تفتر عزيمتهم في التصدي لآلات البطشِ الصهيونيةِ حتى بالصدور العارية، فما زال الشعبُ الفلسطيني مستعداً لتقديمِ الشهداء ، قوافل تتلو غيرها في سبيل فلسطين، والحقيقةُ التي يؤمن بها كل فلسطيني أن لَّا أحدَ مُخَوَّلٌ بالتنازلٍ عن شبرٍ من ، فهي ملكٌ لكل الأجيال ، ما انقضى منها وما هو آت .

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد